بوابة الفجر

عادل حمودة يكتب: حرية كشف الحقيقة فى فيلم عن امرأة قوية صنعت صحيفة مؤثرة


"ذا بوست" يرد اعتبار الميديا فى مواجهة إهانات ترامب لها

الصحافة الأمريكية فضحت الحرب فى فيتنام وأسقطت نيكسون فى قضية ووترجيت وحاكمت تحرش رجال الكنيسة بالأطفال وأثبتت تمويل عمليات المخابرات المركزية بتجارة المخدرات


مهما كانت ديمقراطية السلطة فإنها تطارد الصحافة فى محاولة مستمرة لالتهامها نيئة أو مشوية فى سيخ على نار يصعب إطفاؤها.


1- كانت مائدة إفطار السفير الفرنسى فى القاهرة نيقولا جالى عامرة بأطباق شرقية شهية حملت لمسات زوجته الجزائرية وراح المدعوون يلتهمونها بشراهة بعد صيام يوم رمضانى حار فى صيف عام 2013 إلا إليزبيث سيموث وشهرتها لإلى سيموث محررة الشئون الدولية فى صحيفة واشنطن بوست وابنة مالكتها كاثرين جرهام.

كانت أجواء التخلص من الرئيس الإخوانى محمد مرسى تسيطر على المشهد السياسى فى مصر وكانت لإلى سيموث عائدة من حوار أجرته مع المشير عبد الفتاح السيسى أضافته إلى قائمة حواراتها المميزة مع حكام العالم الذين تسافر إليهم مهما بعدت المسافات رغم أن عمرها وصل إلى السبعين عاما.

إن القاعدة الصارمة فى صحيفتها العريقة التى صدرت فى 6 ديسمبر عام 1877: لا أحد فوق الأصول المهنية ولو كان مالكها والخطأ الأول هو الخطأ الأخير.


2- يجذب لوبى فندق ريتز كارلتون حى بكهيد الراقى فى مدينة أطلانطا الشخصيات المؤثرة فى ولاية جورجيا بجانب ضيوف شبكة سى إن إن الأخبارية التى يقع مقرها الرئيسى على بعد ربع ساعة بالسيارة من الفندق.

فى عام 2005 وجدت فى اللوبى مارك فيلت الرجل الثانى فى مكتب التحقيقات الفيدرالية (إف بى آى) الذى أطلق عليه فى قضية ووترجيت الحنجرة العميقة وأمد سرا صحفى واشنطن بوست بوب وود ورد وكارل برينشتين بالمعلومات الخفية التى أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون.

كان فيلت بصحبة ابنته ينزلان فى نفس الفندق استعدادًا لظهوره على شاشة (سى إن إن) ليجنى مزيدا من المال بعد أن كشف عن شخصيته فى مقال نشرته مجلة إنفنيتى مقابل 8 ملايين دولار.

وفى نشوة النجومية المتأخرة لم يمانع الرجل من الدردشة معه خاصة أننى لم أكشف له عن شخصيتى المهنية خشية أن يرفض الكلام بحجة خرق عقوده الحصرية التى وقعها مع الميديا.

يومها سألته: كيف يتجرأ جهاز أمنى مثل المباحث الفيدرالية على تسجيل مكالمات الرئيس والمفروض أنه يعمل فى خدمته؟.

وتوقف الرجل عند السؤال قائلا: صدقنى لا أحد سألنى هذا السؤال من قبل كيف خطر على بالك فعلا لا يجوز الاقتراب من الرئيس والتسجيلات التى خرج فيها صوت الرئيس لم تبدأ من عنده وإنما بدأت من عند شخصيات كانت تقدر على الاتصال به.

لكنه أضاف: القضية ليست فى التسجلات أو المستندات فالحصول عليها سهلا وإنما القضية فيمن ينشرها ولولا جرأة ذا بوست ما حدث ما حدث.


3- ذا بوست هو الاسم الذى يطلقه الأمريكيون على صحيفة واشنطن بوست ولشهرة الاسم وشعبيته اختير عنوانا لفيلم ذا بوست الذى يكشف عن صراع الصحافة مع السلطة من أجل الحقيقة ولو كانت مخبأة فى البنتاجون (المؤسسة العسكرية الأمريكية).

شاهدت الفيلم فى رحلة أخيرة إلى ألمانيا ولم أتعجب من الحماس الشديد الذى اجتاح الولايات المتحدة له رغم أنه فى النهاية ليس فى قوة فيلم كل رجال الرئيس الذى دارت أحداثه حول فضيحة ووترجيت وليس فى قوة فيلم سبوت لايت الذى كشفت فيه صحيفة بوسطن جلوب عن تحرش رجال دين فى الكنيسة بالأطفال وليس فى قوة فيلم جارى ويب الذى يحمل اسم الصحفى الأمريكى الذى حصل على جائزة بوليتزر بعد أن نشر مستندات تثبت تمويل وكالة المخابرات المركزية لمتمردى الكونترا فى نيكارجوا بأموال تجار المخدرات التى سمحوا بدخولها إلى البلاد لتدمير أجيال شابة من السود فى الأحياء الفقيرة وراحت الأجهزة الخفية المتهمة تتهمه بالكذب وتدمر عائلته حتى طرد من صحيفته وبعد سبع سنوات من تقاعده وجد مقتولا برصاصتين وسجل الحادث انتحارا دون أن يتساءل أحد كيف ينتحر برصاصتين فى الرأس؟ ألم تكن رصاصة واحدة تكفى؟

ليس ذا بوست أفضل الأفلام التى قدمت عن الصحافة الأمريكية لكنه جاء فى وقت يحتقر فيه ترامب الصحافة ويتهمها بالكذب ويرفض الكشف بشفافية عما يبرر قراراته وهذا هو سر الحماس الهائل للفيلم داخل وخارج الولايات المتحدة.


4- يبدأ الفيلم بمشاهد من حرب فيتنام التى استمرت عشر سنوات (1965 - 1975) وخسرت فيها الولايات المتحدة 60 ألف قتيل و165 ألف أسير وتراكمت وثائق الحرب التى لم يكشف فيها البنتاجون عن حقيقة ما يجرى فيها مستندا إلى قانون السرية وقت الحرب وبلغت هذه الوثائق 47 ألف مجلد يحتوى 7 آلاف صفحة.

وسرب تلك الوثائق موظف مدنى فى وزارة الدفاع اسمه دانيال السيبرج وما أن نشرت صحيفة نيويورك تايمز بعضا منها حتى حصلت الحكومة فى 13 يوليو 1971 على أمر قضائى يمنعها من مواصلة النشر.

فى ذلك اليوم قررت واشنطن بوست نشر نسختها من الوثائق فقدمتها الحكومة إلى محكمة ابتدائية ولكن مع غضب الرأى العام المتصاعد مما قرأ وافقت المحكمة العليا على نظر القضية وكان قرارها مساندا للحرية قائلة: لا شأن للحكومة فى محاولة وضع رقابة على الصحف أو منع الكشف عما يخدم الحقيقة التى كانت الوسيلة الوحيدة فى بلادنا لتصحيح الأخطاء السياسية الفادحة أما حجة حماية الأمن القومى فحجة واهية فى تغطية الفشل فى كثير من الأحيان.


5- وينصف الفيلم المرأة بتركيزه على دور ناشرة الصحيفة كاثرين جراهام فى دعم رئيس التحرير وقتها بن برادلى لنشر الوثائق الممنوعة لتحافظ على القيم التى تعلمتها من والدها وزوجها ونقلتها وابنتها.

إن هذه القيم هى التى نقلت ذا بوست من صحيفة محلية محدودة التأثير والتوزيع اشتراها والدها ايوجين ماير عام 1933 (فى مزاد إفلاس بمبلغ 825 ألف دولار) إلى صحيفة عالمية ضاعف زوجها فيليب من قوتها قبل أن يفارق الدنيا منتحرا عام 1963 بعد إدمان الخمر والنساء وإصابته بالهوس والاكتئاب وكان عليها وهى فى سن الخامسة والأربعين أن تكمل مشوارهما فى مهنة صعبة لم تتصور نفسها مهيأة لها لكنها نجحت فى أن تجعل صحيفتها مؤثرة فى صنع القرار فى العاصمة السياسية للبلاد بعد توظيفها أنجح الصحفيين ومنهم بن برادلى.

وكتبت كاثرين (أو كاى كما يسميها أصدقاؤها) مذكراتها ونشرتها وهى فى الثمانين من عمرها بعنوان تاريخ شخصى وحصلت بها عام 1998 على جائزة بوليتزر أعلى جائزة صحفية وبعد أربع سنوات توفيت فى مستشفى ايداهو متأثرة بجراح لحقت بها على إثر سقوطها فى حمام بيتها لتنتهى حياتها نهاية لا تناسب قيمتها.


6- لكن لا يمكن لناشر صحيفة أن يحقق ما يريد من نجاح دون وجود رئيس تحرير يجيد المهنة ولا يعرف من حسابات النشر سوى قيمة الحرية.

وكان وراء الطفرة الهائلة التى حظيت بها ذا بوست صحفى موهوب جرىء هو بن برادلى.

ولد فى بوسطن (26 أغسطس 1921) ودرس فى هارفارد وتوفى فى نيويورك (21 أكتوبر 2014) ولكن الأهم كان إيمانه بأن الصحيفة أقوى من الحكومة وأنها لو انحازت إلى الحرية وجدت الحقيقة أمامها على طبق من كريستال.

ورغم علاقته القوية برموز السلطة فى واشنطن فإنه لم يجامل أحدا منهم فوصف بأنه رجل بلا أصدقاء واسعده الوصف كثيرا فقد كان دليلا على غياب الحسابات الشخصية عن قراراته.

وتميز بن برادلى بقدرته الفائقة على اكتشاف المواهب ودفعها فى الطريق المناسب لها وقد وجد فى بوب وود ورد قدرة فائقة على التحرى فنقله من قسم المحليات (حيث كان يغطى أخبار غش اللبن) إلى قسم التحقيقات وظل بجانبه حتى جعل منه فيما بعد أهم كاتب سياسى لسنوات طوال بعد كشفه فضيحة ووترجيت هو وزميله كارل برنشتين الذى يعد واحدا من افضل كتاب السيرة الذاتية للرؤساء.

7- فى نادى الصحافة الذى يقع أعلى بناية قريبة من البيت الأبيض حضرت ندوة تحدث فيها بن برادلى عن الصحافة والسلطة والديمقراطية.

بدت ثقافته السياسية عريضة وعميقة عندما أكد أن الحكومة الجيدة هى التى تستفيد من حرية الصحافة فى كشف عيوبها لإصلاحها.

ولو حاربت الحكومة الصحافة فهى كمن يفقأ عينى مرشده ودليله فى صحراء مجهولة فلا يصل إلى الواحة التى ينشدها.

وعندما سئل عن الديمقراطية أجاب: إنها تحتاج إلى بنية أساسية قبل الذهاب إلى صندوق الانتخابات.. أما البنية الأساسية فهى المساواة أمام القانون.. وعدم التمييز بسبب عرق أو دين أو جنس.. وضمان الحريات العامة.. ومنها حرية كشف المعلومات.

وتزداد رغبة الشعوب فى اختيار حكومة جيدة والتخلص من حكومة فاشلة كلما زادت الضرائب التى تدفعها.

ولو شكلت الإيرادات السيادية النسبة الأكثر تأثيرًا فى الميزانية العامة فإن تأثير الناس فى محاسبة الحكومة يتراجع.

الخلاصة التى قدمها رجل أفنى عمره فى بلاط صاحبة الجلالة: إن الصحفى الذى لا يفهم فى السياسة ليس أمامه سوى متابعة أخبار نجوم السينما وفضائح لاعبى الكرة.

والعبارة التى قرأتها فى البداية منسوبة إليه.


8- فى فيلم ذا بوست لعب توم هانكس دور بن برادلى ولعبت ميريل ستريب دور كاثرين جرهام وشارك الاثنان فى كتابة السيناريو مع جوش سينجر وسارة بولسن وبدأ تصويره فى مايو الماضى وعرض فى ديسمبر التالى ولوحظ إقبال أجيال شابة على مشاهدته نوعا من رد الاعتبار للصحافة التى تعرضت إلى حجم من الإهانات فى العام الأول لرئاسة ترامب لم تتعرض له فى تاريخها الممتد نحو مائتى سنة.

أما المفاجأة فكانت مخرج الفيلم ستيفين سيبلبرج الذى صنعه بطريقة تقليدية متقنة بعيدا عن شهرته فى تقديم أفلام خيالية تتفجر بالإثارة مثل الفك المفترس واندينا جونز وإى تى وإن لم ننس فيلمه قائمة شندلر عن إنقاذ مجموعة من اليهود من معسكرات الإبادة النازية وهو فيلم أخرجه بلا مقابل تماما ليؤكد أن السينما أيضا تلعب فى السياسة وتؤثر فيها.