بطرس دانيال تكتب: الصفح عند المقدرة

مقالات الرأي



يقول السيد المسيح: «أَحِبّوا أعداءكم، وأحسنوا إلى مُبغضِيكم، وباركوا لاعنيكُم وصلّوا من أجل المفترينَ الكَذب عليكم» (لوقا 27:6). كم هو صعب تطبيق هذه الكلمات فى حياتنا اليومية، ومن المحتمل أن تصبح مستحيلة للكثيرين لأننا بشر ضعفاء. لنتأمل معاً ما فعله داود النبى مع شاول الملك عندما رآه نائماً فى سُباتٍ عميق، كما أن الحرس كلهم كانوا نياماً، لم يستغل داود هذه الفرصة للقضاء على عدوه الملك مستنداً إلى كلمات أبيشاى (أحد أبطال داود المحاربين) الذى قال له: «قد دَفَعَ اللهُ اليومَ عَدوّك إلى يدك؛ فدَعنى أطعنه بهذا الرّمُح إلى الأرض طعنةً واحدةً، ولا أُثنى عليه، فكان رد فعل داود قائلاً: «لا تقتله؛ فمَنْ الذى يَمدّ يدَهُ إلى مُكرّس الرب ويكون بريئاً؟» واكتفى داود بأن يأخذ معه الرمح وإناء الماء من عند رأس شاول؛ ثم انصرفا.... (سفر صموئيل الأول 26). نستخلص مما حدث أن داود حين شاهد خصمه أثناء النوم ومعه الحرس، لم يستمع إلى أبيشاى مغتنماً هذه الفرصة التى كان يعتبرها من لَدُن الله، ولكنه اكتفى بحَمل بعض الأشياء ليكشف لعدوه بأنه لم يمسّه بضررٍ بالرغم من الظروف المتاحة له للانتقام من خصمه. ما هى الدروس المستفادة من هذا الموقف فى التعامل مع الأشخاص الذين نتقابل معهم معتبرين إياهم أعداءً لنا؟ أولاً: محبة الآخر الذى نعتبره عدواً لنا حسب تصنيفنا، فلم تكن نظرة داود لشاول الملك كَشَبَح ولكن كإنسان مثله ضعيفاً وواهناً، إذاً علينا أن ننزع القناع الذى نرى الآخر به كعدو لنا ونغيّر القالب الذى وضعناه فيه، مما يجعلنا نكرهه، حتى أصبح الإنسان ذئباً لأخيه، لكن الصفح هو من شِيَم الكرام، وما أروع هذه العاطفة التى عبّر عنها داود النبى، ولاسيما فى عصرنا هذا المشحون بالأنانية والبغض والحقد والقتل والدمار. ثانياً: نتعلّم من داود الذى لم يستمع لنصائح أبيشاى التى حاول بها أن يقنعه بأنها إرادة الله للانتقام من عدوه. مما لا شك فيه أن الكثيرين يبررون أفعالهم السيئة والعنيفة مع الغير، ناسبين إياها إلى إرادة الله الرحيم والمُحب. لذلك لم يقتنع داود بكلام المُحارب أبيشاى مفضّلاً أن تكون هذه الفرصة لإنقاذ حياة خصمه وليست للقضاء عليه، واحترامه لا التغلّب عليه. إذاً... فَهِمَ داود جيداً بأن عدوه ليس عدو الله، لأن الله ليس له أعداء أبداً حتى الذين يرفضونه أو يجاهرون بعدم الإيمان به. وعلاوة على ذلك رأى داود فى شاول نذيراً لله ومُكرّساً، لأن الله وضع بصمته ونفخ بروحه فى كل إنسان، إذاً من المستحيل أن يؤذيه أو ينتقم منه. مَنْ يريد أن يدافع عن الله إن صح القول؛ يفعل هذا بالمحبة والتواضع والوداعة واحترام الغير، لأننا فى اللحظة التى نفعل ضرراً مع الغير حتى وإن كان بالكلام، نُسيء لله وصورته، لأن محبة الغير هى تعبير عن حبنا لله والعكس صحيح؛ إذاً لا يستطيع أحدٌ أن يدّعى الدفاع عن المبادئ أو الشرائع بالانتقام من الآخرين. فعلينا إذاً ألا ننسى بأنه لا يوجد سلاح أمضى من الحب ومقاومة الشر بالخير، ومقابلة الإساءة بالصفح، والامتناع عن إيذاء أى شخص، فالمحبة أقوى من البغض، واللين أكثر صلابة من العنف، لأن الحق لابد له أن ينتصر فى النهاية. نستطيع أن نسترد كرامتنا من الخصوم الذين نصنعهم لأنفسنا بالمحبة واحترام كرامة الإنسان والتواضع والوداعة، لا بالسيف والنار ولا بالمكر والغدر ولا بالبغض والانتقام. كما يقول أحد الأشخاص: «إذا كان القريب أعور، فأنظر إليه من جانبٍ، حتى لا أرى إلا عينه السليمة ويخفى علّيّ عَوَرَه». وكان نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا الشهير يكتب أفكاره وتأملاته التى اكتسبها وهو فى المنفى فى جزيرة القديسة هيلانة، وكان يقول فى إحداها: إن الإسكندر الأكبر وقيصر وشارلمان وأنا أسسنا إمبراطوريات عظيمة جداً، ولكن ما هو الأساس الذى اعتمدنا عليه؟ مما لا شك فيه على القوة، لذلك انهارت وزالت. لكن السيد المسيح وَحْدَه أسس إمبراطورية على الحُب فبقيت حتى يومنا هذا وستبقى إلى الأبد، لذلك ملايين من البشر لا يُحصى عددهم يموتون حبّاً فيه وهياماً به». إذاً فكل هذه التعاليم صعبة ومستحيلة على الذين يتبعون أهواءهم وميولهم الفاسدة، لكن أولئك الذين جعلوا الله نِصْب عيونهم، فلا شيء صعب عليهم. ونختم بالقول المأثور: «السعادة ما هى إلا سلام مع الله وسلام مع الغير».