منال لاشين تكتب: كيف رأى هيكل إعلام ثورة

مقالات الرأي



ظل أسير تجربته الناصرية

التوك شو فوضى وطبق سلطة.. ملكية رجال الأعمال للإعلام خطر.. والدولة يجب


منذ عامين رحل الأستاذ هيكل وقد فضلت أن أودعه بما تصورت أو بالأحرى تأكدت أنه سيسعده، وأنه سينظر من السماء إلى مقالتى بابتسامة رضا. ودعت الأستاذ هيكل بمقالة عن علاقته بالرئيس السيسى. فالأستاذ هيكل تعود أن يكون الأقرب المقرب إلى الرئيس.. فمنذ علاقته التاريخية بالزعيم جمال عبدالناصر صارت علاقاته بالرؤساء قدرا أو هوسا. وأعتقد أن عودته للأضواء وإلى جوار أذن الكبار كانت هدية القدر للأستاذ هيكل فى سنواته الأخيرة.

ولكننى فكرت أن أحتفل بذكرى وفاته هذا العام بخيط مشترك بينى وبينه.. بمساحة يتقابل فيها اهتمامنا المشترك بالمهنة التى أصبح لها سفيرًا وأحد العناوين المهمة للصحافة المصرية والعربية.

اخترت أن استرجع فى ذكرى الأستاذ هيكل رؤيته لإعلام وصحافة ما بعد 30 يونيه. ولا أنكر أن بعض آرائه وقناعاته عن الإعلام والصحافة قد أزعجنى بنفس القدر الذى أذهلنى. ثمة اختلافات كثيرة بين الواقع الإعلامى الذى تحرك فيه الأستاذ هيكل وبين رؤيته التى أقر بها حينا فى حواراته وحينا أكثر وأخطر فى لقاءات خاصة مغلقة. ولقد كان تأثير اللقاءات الخاصة أشد بكثير من الآراء العامة.


1- عقدة الملكية

لاشك أن الأستاذ هيكل وأن حوله البعض لأسطورة بشر يتأثر بتجاربه خاصة التجارب السعيدة. ولذلك تأثر الأستاذ هيكل بتجربة إعلام وصحافة الزعيم عبدالناصر الذى سمح له فى إطار الصداقة والإعجاب بقدرات هيكل أن يصبح المقرب الأقرب له، واعتبر السادات أن هيكل شريكا لعبدالناصر.

وعلى الرغم من أن هيكل كان ضد وجود الناصرية كنظرية، وعلى الرغم من أن هيكل نبه المواطنين إلى خطورة تأليه عبدالناصر وذلك فى وقت مبكر جدا جدا وتحديدا فى ذكرى الأربعين للزعيم عبدالناصر.. رغم هذا وذاك أن السنوات أثبتت أن هيكل تشبث بتجربة عبدالناصر الإعلامية التى اختلطت بتاريخه وشاعره وذكرياته. لم يؤثر فى هيكل علاقاته الإعلامية الصحفية مع كبار الكتاب فى العالم وتعاملاته مع المؤسسات الصحفية الخاصة عبر العالم، إلا أن هيكل ظل متحفظا بحساسية نظام عبدالناصر فى النظر للإعلام والصحافة المحلية أو العابرة لحدود الدول والقارات والسياسات. عندما عرضت عليه الجزيرة أو بالأحرى الشيخة موزة أن يقدم تجربته الصحفية على شاشة الجزيرة حرص الأستاذ هيكل ألا يتعاقد مباشرة مع الجزيرة. وبالفعل تم الاتفاق مع شركة مصرية يملكها الناشر الشهير إبراهيم المعلم وابنه. ولقد بدت هذه الخطوة من جانب هيكل عبقرية فى نظر البعض، ولكننى استنتجت منها أنه رجل بالغ الحساسية متأثر بالقيم الإعلامية الناصرية. فقد أنهت العولمة هذه الحساسيات خاصة أن الجزيرة لم تكن قد كشفت عن وجهها القبيح بالنسبة لمصر وأهلها وأمنها. وربما يكون موقف هيكل من الجزيرة أنه يرفض أن يبدو كمن قبض أموالا من النظام القطرى.

ولكننى فوجئت وصدمت عندما عبر هيكل صراحة وفى أول حوارات العودة لبيته الأهرام بمواقفه من الإعلام الخاص أو الصحافة الخاصة. فقد أبدى هيكل تخوفه من سيطرة رجال الأعمال على الصحافة ومال إلى أن الصحف الملكية العامة هى الأكثر أمنا على الدولة وعلى الصحافة. وقد صدمت من تغير موقفه من الصحف الخاصة التى احتفت به احتفاء مستحقا حين منعت الدولة الصحف الحكومية من نشر مقالاته أو حوارات معه. وكتبت فى وجود الأستاذ هاجمت بصراحة وصفه للصحافة الخاصة بأنها مجرد فورة. وزاد من دهشتى موقفه فيما بعد ثورة 25 يناير من الصحف الخاصة، إنه الأستاذ هيكل رعى تجارب للصحف الخاصة. ووصل برعايته أنه كان يتابع بنفسه الأعداد التجريبية لبعض الإصدارات الصحفية الخاصة. ورشح رئيس تحرير لإحدى هذه الصحف من أخلص أصدقائه وزملائه، وغضب هيكل لعدم الأخذ بهذا الترشيح من صاحب الدار كثيرا.

وموقف هيكل من ملكية الإعلام والفضائيات لا يختلف من موقفه من ملكية الصحف. بل أنه أشد لأن الفضائيات تأثيرها أقوى. فى لقاءاته الخاصة مع الكبار جدا حذر الأستاذ هيكل من خطورة امتلاك رجال أعمال للفضائيات باعتباره تهديدا للدولة المصرية. وأن رجال الأعمال يمكن أن يستخدموا هذه الفضائيات فى لى ذراع الدولة. ونسى الأستاذ هيكل أن قناة دريم فتحت له شاشتها وقت أن رفض النظام أن تتعامل قنوات التليفزيون المصرى أو الصحافة القومية. وربما سمع هيكل أن صاحب القناة رجل الأعمال أحمد بهجت استغل محاضرات هيكل للتعامل مع أزمة ديون بهجت للبنوك. أيًا كانت الحقيقة وراء تعامل بهجت مع الدولة فإن موقف هيكل من الفضائيات الخاصة أو المملوكة لرجال الأعمال كان حاسما. ولم يمنع تخوف هيكل من إعلام رجال الأعمال من أن يوافق على عرض شبكة (سى. بى. سى) المملوكة لرجل الأعمال محمد أمين للظهور على شاشتها. واختار هيكل لميس الحديدى لتقديم الحلقات معه والتى استمرت لأكثر من عامين. وكان أول شرط وضعه هيكل للشبكة هو ألا تكون حلقاته جزءا من برنامج لميس (هنا العاصمة) بل حلقات خاصة بعنوان مصر من أين؟ وإلى أين؟.

ومرة أخرى فتح الأستاذ هيكل باب الجدل هو علاقته أو رأيه حول برامج (التوك شو).


2- عدو التوك شو

وإذا رفض هيكل لأن يكون جزءا من التوك شو حتى لو كان من أشهر البرامج يمكن فهمه فى إطار حفاظ هيكل على صورته الأسطورية بالطبع، إلا أن ذلك لم يمنع أن هيكل كان بالفعل من أشد منتقدى وأعداء برامج التوك شو بشكل واضح.. من بين أوصاف الأستاذ هيكل فى حواراته الخاصة جدا أنه صداع مسائى مزعج وحالة فوضوية وكان الأستاذ هيكل يأخذ على مذيعى التوك شوك أنهم يتحدثون كثيرا وفى كل موضوع وأى موضوع وكأنهم خبراء فى كل شىء. وكان الأستاذ يأخذ عليهم مقاطعتهم لضيوفهم. وذات مرة أو بالأحرى ذات قعدة خاصة وصف الأستاذ هيكل برامج التوك شو بطبق سلطة غير متقن الصنعة كما أنه كان يردد أنه لا يوجد دولة فى العالم بها كل هذا القدر من الصداع المسائى المسمى بالتوك شو. وكان الأستاذ هيكل يفضل أن تعود الأمور إلى ماضيها أو نصابها. فتكون البرامج السياسية التحليلة برامج منفصلة عن صداع التوك شو. وتعقب النشرات الإخبارية.


3- الإعلام التعبوى

لم يقتصر حنين الأستاذ هيكل للماضى فيما يختص بالبرامج السياسية فقط، وإنما الحنين الأكبر أو بالأحرى الأخطر كان حنينه لإعلام. عبدالناصر.. وكناصرية أقر وأعترف أن الإعلام لم يكن فى أفضل حالاته فى عصر عبدالناصر، وذلك ليس مقارنة بإنجازات عبدالناصر فى الاقتصاد أو التعليم أو الصحة. لكن بوجه عام. لأن حرية الإعلام لم تكن فى أفضل أحوالها بصفة خاصة والحريات بصفة عامة. إعلام عبدالناصر يمكن وصفه بالإعلام التنموى أو التعبوى إلى حد كبير. وأنه لم يفتقر إعلام عبدالناصر إلى التنوع فى حدود الدنيا. كان الأستاذ هيكل يعلم تماما أنه كان فى الأهرام أو بالأحرى الأهرام تمثل صوت الدولة أو الحكم، بينما تركت الجمهورية والمساء بعد ذلك إلى اليسار بمعظم طوائفه. بينما كان اللواء الإسلامى منبرا للإسلاميين المعتدلين. بل إن الأهرام أصدرت مجلة الطليعة وكانت صوت الماركسيين. لأن تصور اختفاء أو قتل التنوع لم يخطر ببال عبدالناصر أو غيره. على أن هيكل كان يرى أن الصحافة ومن بعدها التليفزيون كانت أداة ناجزة وناجحة فى تعبئة وحشد وإقناع المواطنين بقضايا التنمية أو بالأحرى بأجندة عبدالناصر التنموية والعروبية والدولية. ولاشك أن التليفزيون نجح فى تجسيد أحلام وطموحات عبدالناصر وبالمثل السينما فى عهد مؤسسة السينما. وبحسب معلوماتى فإن الأستاذ هيكل اقترح فى بعض الجلسات الخاصة جدا أن يكون للدولة أذرع صحفية وفضائية قوية وبنسبة مؤثرة جدا من سوق الإعلام والصحافة. وألا تتجاهل الدولة دور الدراما الخطير فى التأثير على وجدان الناس وقناعتهم وتصوراتهم عن حياتهم والمحيط الذى يعيشون فيه وآمالهم. باختصار كان الأستاذ هيكل لا يزال مؤمنا بتجربة التأميم، ولكن بالشكل الذى يلائم المجتمع والعصر الذى نعيش فيه. رحم الله الأستاذ هيكل وغفر له ما تقدم وتأخر من ذنبه. لأننى اعتقد أن رؤيته للإعلام والصحافة قد أثرت فى بعض الشخصيات النافذة وبالتالى فى مستقبل المهنة. لأن الأستاذ هيكل ظل أسير عصره وتجربته، لم يحسب الأستاذ حسابا للمتغيرات. فوسائل التواصل الاجتماعى من فيس بوك وتويتر وأخواته نافسوا وسائل الإعلام التقليدية. وغياب الخبر فى الصحافة أو الفضائيات أوجد الشائعات فى الفيس. كما أن الوسط الإعلامى نفسه تغير بشكل لم يعتده أو يحسبه الأستاذ هيكل. فنسبة الصحفيين فى الصحف الخاصة تعدت 40% من نقابة الصحفيين. واتجاهات الصحفيين نفسها تغيرت بشكل لم يصل إلى الأستاذ الراحل. ولعل هذا الغياب تمثل فى انتخابات نقابة الصحفيين قبل الأخيرة. فقد نصح الأستاذ هيكل نقيب الصحفيين السابق الزميل يحيى قلاش بعدم الترشح لموقع النقيب، وعلل هيكل هذه النصحية بأن حظوظ قلاش فى النجاح قليلة. ولكن قلاش اكتسح هذه الانتخابات.

ولذلك فمع احترامى للأستاذ هيكل ونصائحه ورؤاه الإعلامية فإن لكل عصر إعلامييه وصحفييه وأدواته وأهدافه والإعلام والصحافة لا يجب أن يكونا قماشا بلاستيكيا يأخذ شكل نظام الدولة ولكنه تعبير عن واقع يلعب فيه الصحفى والإعلام دور الوسيط أو الوصلة بين الأحداث والمواطن عبر أدواته. مرة أخرى كنت أتمنى أن يفرق الأستاذ هيكل بين وضعه فى إعلام عبدالناصر وإعلام عبدالناصر نفسه. حتى من التغييرات التاريخية والمواءمات. فكيف يكون اقتصاد عبدالناصر غير قابل للتطبيق الآن، وتواجهاته السياسية غير واقعية الآن ويكون علينا تصديق الأستاذ عندما يقول لنا أو ينصح بتكرار تجربة إعلام عبدالناصر.