عادل حمودة يكتب: من برنارد ليفى وإيلان جرابيل إلى ماثيو هيدجز

مقالات الرأي



جيل جديد من الجواسيس تحت غطاء باحث أكاديمى أو بيزنس مان

المعلومات الاقتصادية والأمنية أصبحت أكثر أهمية من معرفة ما تملكه الدول من أسلحة 

بعد وفاة عبد الناصر هجم الباحثون على مصر لتسجيل ودراسة طعامنا ونسبة الفرد من مياه الشرب ومستوى البطالة وحجم المدخرات والوحدة الوطنية ..والنتيجة تغيرات سياسية.. فتن طائفية.. تنظيمات إرهابية 

هجمات الباحثين تكررت خلال تظاهرات يناير 2011 وتم القبض على 150 جاسوسًا من نوعيات غير معتادة 

هيدجز عمل باحثًا فى مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكرى بالإمارات.. واعترف أثناء التحقيقات بالعمل لحساب المخابرات البريطانية
كانت الشمس تغرب وراء قمة طريق جبلى صاعد يغطيه الجليد راسمة دائرة برتقالية ساحرة.. مشهد جذاب أغرى رفيقى المصور بالتوقف ليسجله بعدسته الرومانسية.. وما أن واصلنا الصعود بالسيارة حتى فوجئنا بجنود من الجيش يشهرون بنادقهم فى وجوهنا ويجبروننا على التوقف.. فقد كان الطريق ينتهى بقيادة أركان الجيش التركى فى أنقرة.

كان ذلك فى شتاء عام 1984 حين كان يحكمها الجنرال كنعان أفرين بعد إطاحته بالسلطة المدنية التى خرجت عن الدستور.

وبعد ست ساعات من التحقيقات فى أكثر من جهة تدخل صلاح حافظ الذى كان ينتظرنا فى الفندق للإفراج عنا، بعد أن نجح عبر اتصالات دبلوماسية عالية المستوى فى الوصول إلى رئيس الأركان الذى كان مصابا بنزلة برد رفعت حرارته إلى ما فوق الأربعين درجة.. وأمر الرجل بتحميض الفيلم ليكتشف أن تهمة التجسس التى وجهت إلينا كانت لحساب قرص الشمس فأفرجوا عنا.

وما أن عدنا إلى الفندق حتى جاء وزير الإعلام مرتديا ثيابه العسكرية ليعتذر عما حدث وكان تبريره: «إن لكل بلد طبيعته الخاصة فى التعامل مع الكاميرا فلو صورت فتاة فى باريس فإنها ستبتسم لك ولو صورت فتاة فى كابول فإنها ستحاكمك بتهمة التحرش بأنثى».

«إن أبسط شك فى تصرفات الغرباء الذين لا يستوعبون طبيعة البلاد التى يزورونها قد ينتهى بهم إلى السجن المؤبد فما بالنا بمن يأتون لتنفيذ مهام سرية خاصة كلفوا بها من أجهزة خفية فى بلادهم».

تذكرت تلك الواقعة وأنا أتابع قضية الجاسوس البريطانى ماثيو هيدجز الذى قبض عليه فى الإمارات وحكم عليه بالسجن المؤبد ثم أفرج عنه فيما بعد بعفو رسمى.

جاء هيدجز لينفذ مهمته تحت غطاء باحث أكاديمى مرة ورجل أعمال مرة أخرى، حسب طبيعة الشخص الذى يتحدث معه بحثا عما يريد من معلومات، وهى تغطية جديدة للتجسس سبق أن عرفته دول عربية مثل مصر قبل وخلال وبعد ثورة يناير.

لقد تغير مفهوم التجسس تماما.. لم يعد العالم فى حاجة إلى معرفة ما تملك الدول من أسلحة وجيوش، فهذه المعلومات متوفرة فى التقارير التى تصدرها مراكز متخصصة مثل مركز الأمن والسلاح فى استكهولم.. كما أن شركات إنتاج السلاح تنشر تفاصيل صفقاتها الخارجية أولا بأول.

لكن الآن العالم أصبح فى حاجة لمعرفة المعلومات الاقتصادية والأمنية التى تؤثر على سلامة الدول واستقرارها وتهدد مصالحها العليا، بجانب معلومات عالية السرية عن القيادات والمسئولين الكبار.

ما أن توفى عبدالناصر حتى فتحت مصر أمام هجمات من باحثين لا حصر لهم من الولايات المتحدة مسحوها من النوبة جنوبا إلى الدلتا شمالا.. ومن سيناء شرقا إلى السلوم غربا.. وسجلوا ما يأكل المصريون على الإفطار.. وظاهرة تعدد الزوجات.. وظروف التعايش بين المسلمين والأقباط.. ومستوى البطالة.. وحجم المدخرات.. ومعدل خصوبة المرأة.. ونسبة العائلات التى تمتلك مسكنها.. ونصيب المواطن من مياه الشرب.. وكانت هذه المعلومات التى تبدو بريئة وراء ما جرى من تغيرات سياسية وفتن طائفية وتظاهرات اقتصادية وتنظيمات دينية عاشتها مصر فيما بعد.

وتكررت هجمات الباحثين خلال تظاهرات يناير 2011 وما بعدها وقبض على بعضهم وهو يصلى فى المساجد ويتجول بحرية فى الأحياء الشعبية. بعد اكتشاف أن بعضهم يهود مثل برنارد هنرى ليفى الذى يحمل الجنسية الفرنسية، ومثل إيلان جرابيل الذى يحمل الجنسية الأمريكية، وقدرت جهات مختصة العدد بنحو 150 جاسوسا من نوعية خاصة غير معتادة وقبض على كثير منهم.

وسكن أجانب مجهولون بالقرب من ميدان التحرير فى شقق مفروشة زرعوا فيها أجهزة تنصت لمتابعة ما يجرى على بعد خطوات منهم وقبض على بعضهم بعد رصد ذبذبات الأجهزة.

كانت مهمة تلك الفرق المستترة وراء المتابعة الصحفية أو الأبحاث الأكاديمية رصد عناصر الفتنة وتشجيعها على الفوضى والتخريب والحرق فى وقت كانت فيه البلاد تعيش ظروفا استثنائية حرجة غير محددة المستقبل، وكان يمكن لمصر أن تلقى نفس مصير الحرب الأهلية التى عرفتها ليبيا وسوريا مثلا.

جاء هيدجز تحت أغطيته التى تستر خلفها، حسب جريدة الاتحاد، لجمع معلومات عن القدرات العسكرية لدولة الإمارات ومعلومات اقتصادية خاصة بالوضع المالى للدولة من خلال معرفة تفاصيل مالية دقيقة عن وضع مجموعة من الشركات الكبرى ذات الصبغة الاستراتيجية، وجمع وحلل معلومات عن متخذى القرار بمن فيهم أفراد فى الأسر الحاكمة بجانب معلومات عسكرية وسياسية حول دور الدولة فى الحرب ضد الحوثيين فى اليمن.

ما جمعه هيدجز من معلومات لا يمكن أن يندرج تحت تصنيف الأبحاث والدراسات ليس بالنسبة للإمارات فقط وإنما بالنسبة لدول العالم المختلفة.

ولم يقم هيدجز باستئذان الجهات الرسمية لتتعاون معه.. حسب ما يقضى العرف دائما، ولجأ إلى التصرف بمفرده فى جمع البيانات دون التأكد من دقتها.. وما أن قبض عليه حتى وجدت هذه المعلومات على أجهزته الإلكترونية التى يحملها.. وفى التحقيقات معه اعترف بأنه يعمل فى خدمة المخابرات البريطانية.. وفيما بعد لم يشر إلى أنه تعرض لضغوط نفسية أو بدنية أجبرته على الاعتراف الذى صور بالفيديو وعرض بعضا منه على مراسلى صحف العالم فى مؤتمر صحفى عرضه المجلس الوطنى للإعلام.

وبصريح العبارة قال هيدجز: «إننى كان لى دور ميدانى نشط».. وخلال محاكمته كرر اعترافه بالعمل على جمع معلومات حساسة وسرية عن الإمارات لصالح أجهزة استخبارات أجنبية.. وعلى وجه الخصوص أضاف: «أنه تلقى تعليمات من الجهة التى يعمل لمصلحتها حددت له فيها بدقة ما تريد معرفته من معلومات».

ولم يكن اختيار هيدجز اعتباطا، فقد سبق أن عمل فى الإمارات باحثا فى مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكرى، (إبيجما) المختصة بعمل الدراسات الأمنية والعسكرية وهو ما أتاح له تكوين علاقات استفاد منها فى مهمته الأخيرة.

وعادة ما تعدم الدول الجواسيس الذين تقبض عليهم فى وقت الحرب، لكن الإمارات اكتفت بالحكم عليه بالسجن المؤبد.

رفعت عائلة هيدجز التماسا إلى حاكم الإمارات الشيخ خليفة بن زايد بالعفو عنه، ونقل موظفو القنصلية البريطانية الالتماس عبر القنوات الرسمية، فأعلنت وزارة شئون الرئاسة عقب ذلك الشيخ خليفة فأصدر عفوا بأثر رجعى على هيدجز ضمن قائمة المعفى عنهم بمناسبة العيد الوطنى، وضموا مواطنين من دول مختلفة دون استثناء يخص هيدجز وحده.

إن كل من يتعامل مع الإمارات زائرا أو سائحا أو مشاركا فى عمل يعرف أنها دولة تميل بطبيعتها إلى التسامح والعيش فى سلامة، وهى صفة جعلتها مميزة عن دول كثيرة فى العالم تفضل تنفيذ العقاب مهما كانت تبعاته.

وحسب بيان صادر عن وزير الدولة للشئون الخارجية أنور قرقاش: فإن العفو عن هيدجز «يتيح لنا التركيز على متانة العلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والمنافع التى يمكن أن يجنيها كلا البلدين والمجتمع الدولى عموما».

وذكر البيان أن محكمة استئناف أبو ظبى الاتحادية أدانت يوم الأربعاء 21 نوفمبر الماضى هيدجز بتهمة التجسس «ما من شأنه الإضرار بالأمن العسكرى والاقتصادى للإمارات» وحكمت عليه بالسجن المؤبد.

تحققت المحكمة من عمل المتهم فى أجهزة استخبارات أجنبية عن طريق أجهزة الاستخبارات الإماراتية وهناك تسجيل مصور يعترف فيه بأنه عضو فى وكالة الاستخبارات البريطانية (أم آى سيكس).

وكان قد قبض على هيدجز (31 سنة) فى مطار دبى بعد أن قضى فى الإمارات أسبوعين وهنا يكون السؤال: هل مدة أسبوعين تكفى لبحث أكاديمى ادعى هيدجز أنه مكلف به من جامعة ردوم البريطانية؟.. إن مثل هذه الأبحاث تستغرق عادة شهورا ويصعب الوصول إلى معلومات دقيقة فيها إذا لم يلجأ الباحث إلى الجهات الرسمية، كما أن هيدجز لم يبرز ما يثبت أنه يعد بحثا تحت إشراف الجامعة التى ذكرها.

وعادة ما يعتبر الجاسوس صيدا ثمينا للدولة التى تكشفه، فهى تقدر على مبادلته بشخص من رعاياها محكوم عليه بتهمة جنائية، وهو ما حدث كثيرا بين دول العالم المختلفة خاصة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى فى سنوات الحرب الباردة، حيث كانت بوابات حائط برلين مكانا للتبادل.

ولكن هنا أضافت الإمارات بعدا آخر مختلفا.. هو الحرص على العلاقات التاريخية والسياسية والاقتصادية مع بريطانيا.. فقد بلغ حجم التبادل التجارى بين البلدين ما يزيد على 12 مليار استرلينى أو ما يعادل 72 مليار درهم.. وفى الإمارات تعمل أكثر من 384 شركة و859 وكالة تجارية فضلا عن أكثر من 14250 علامة تجارية مسجلة.

وفى مارس الماضى نشرت صحيفة إندبندنت أن السياحة البريطانية فى الإمارات زادت فى العام الجارى بنسبة 18% تقريبا لتتضاعف 19 مرة خلال العشرين عاما التى مضت.

وكثيرا ما تبادل المسئولون الكبار فى الدولتين الزيارات الرسمية للتأكيد على خصوصية العلاقات بينهما وهى علاقات تمتد إلى عشرات السنوات التى انقضت.

لتلك المبررات وجدت الإمارات أن العفو عن هيدجز أمر يسهل تنفيذه حرصا على المصالح المتبادلة بين البلدين وحتى لا تتعكر المياه الصافية بينهما.

ولكن ما أن عاد هيدجز إلى بلاده حتى تنكر لقرار العفو عنه وسعى إلى تبييض وجهه وسمعته بروايات لم يملك دليلا على إثباتها وهدد برفع قضية ضد الإمارات.

ويصعب عليه كسب القضية فى زمن يعتبر فيه البحث عن المعلومات الاقتصادية والأمنية بعيدا عن مراقبة وموافقة الدول نوعا من التجسس شديد الخطورة.

على أن ما فعله هيدجز لابد أن يوضع تحت أنظار الدول العربية لتستوعب الحقائق الجديدة فى عمليات التجسس الاستخباراتية تحت أغطية بحثية وصحفية وإعلامية وإلا فإن الثمن الذى ستدفعه سيكون غاليا حتى لو تصورت خلاف ذلك.