عادل حمودة يكتب: وثيقة سياسية عمرها 63 سنة تنقذ الدول المتخلفة من الأخطاء التى وقعت فيها

مقالات الرأي



نشرها هيكل على لسان نهرو

الاستقلال ليس قصاصة ورق والعلم ليس قطعة قماش نتباهى بها والعلم السبيل الوحيد للتقدم

الأمم المتحدة مقهى للثرثرة وصندوق النقد الدولى أداة سيطرة فى يد الاستعمار الجديد

قوى الثروة المتحالفة مع الاحتكارات الدولية وضعت كثيرا من الحكومات الوطنية تحت سيطرتها


هو مفكر ومنفذ.. حاكم وحكيم.. ثورى ورومانسى.. أرستقراطى واشتراكى.. هو جواهر لال نهرو أحد زعماء الاستقلال فى الهند وأول رئيس حكومة لها بعد جلاء الإنجليز عنها فى صيف عام 1947 وظل فى منصبه حتى توفى بأزمة قلبية فى صيف عام 1964.

لم نتذكره الآن؟.

فى كتابه «زيارة جديدة للتاريخ» يتوقف محمد حسنين هيكل أمام شخصيته فاحصا متأملا باحثا عن سر تميزه وسط الزعماء الكبار الذين أسسوا حركة عدم الانحياز فى باندونج عام 1955 ومنهم جمال عبدالناصر (مصر) وشواين لاى (الصين) وجوزيف بروز تيتو (يوغسلافيا) وأحمد سوكارنو رئيس الدولة المضيفة (إندونيسيا).

حار هيكل فى حل شفرة نهرو الذى بدا له ساخرا فى تعليقاته.. مملا فى تصرفاته.. متعاليا فى كلماته.. ولكنه.. فى الوقت نفسه امتلك رؤية مستقبلية نافذة للدول حديثة الاستقلال.. الباحثة عن مكان لها تحت الشمس.. رؤية روشتة لعلاج متاعبها.. لم تأخذ بها.. وإن لا تزال صالحة حتى اليوم.

أمام اللجنة السياسية للمؤتمر طلب الكلمة ليتحدث إلى قادة يحلمون بغد أفضل لشعوبهم وإن لا يملكون خارطة طريق تنقذه من مسالك التيه التى بدت أمامهم.

«كان منظر نهرو العام أخاذا ومؤثرا.. رداؤه الأبيض مازال كالثلج الشاهق البياض والوردة الحمراء كأنها جمرة مشتعلة على صدره والبريق فى عينيه شديد ويده مرفوعة وشفتاه تتحركان كأن الكلام المحبوس بينهما على وشك أن يتدفق كالسيل البركانى.. وكل ذلك فى جلال ووقار».

«وأعطاه رئيس الجلسة الحق فى الكلمة».

ونزلت يده المرفوعة وأنظار الجميع معلقة بشفتيه وإذا هو يحنى رأسه ويروح بقلم فى يده يكتب بينما هو فى نفس الوقت يهز رأسه إشارة شكر إلى رئيس الجلسة إذ أعطاه حق الكلمة ومرت لحظات ونهرو مازال يكتب.. وأنفاس القاعة محتبسة فى انتظاره.. وهو مازال يكتب.

«ثم رفع رأسه ووضع قلمه ومد يده فأزاح رداء رأسه التقليدى الأبيض وألقاه أمامه على المائدة بغير اكتراث ثم أدار رأسه العارى إلا من شعره الذى غطاه الشيب وقال وهو يدور بنظره حول القاعة المشدودة الأنظار: «أيها السادة.. أنتم تثيرون فزعى».

«وسرت فى القاعة همهمة ضاحكة ولم يتوقف نهرو :

«نعم أنتم تثيرون فزعى إلى درجة الموت !».

«وساد فى القاعة صمت أمسك بأنفاسها مرة أخرى بينما نهرو يتأهل للكلام وهو يضع نظارته الصغيرة بإطار معدنى على عينيه ثم يلقيها بعد لحظة أمامه ثم يدير البصر حوله فى القاعة التى تسمرت أنظار الكل فيما عليه.

«بدأ نهرو وهو مازال يدير البصر فى القاعة حوله عابرا على وجوه كل الجالسين حول مائدة الاجتماعات الكبيرة المستطيلة الشكل قال أولا:

«إن كثيرين من أصدقائنا هنا يتكلمون عن الحرية والاستقلال... كثيرين خصوصا من رفاقنا فى إفريقيا.. إننى عددت كلمة الحرية والاستقلال فى كلام ممثلى الحركات الشعبية فى كينيا وروديسيا (زيمبابوى فيما بعد) فإذا هى كثيرة.. كثيرة جدا.. المندوب المحترم من كينيا كررها تسع عشرة مرة والمندوب من روديسيا كان أكثر تواضعا فكررها ست عشرة مرة فقط.. ليس بين الذين سمعتهم أمس واليوم من لم يكررها عشر مرات على الأقل.

« أريد أن أسألكم ماذا تعرفون عن الحرية والاستقلال؟ ماذا تعرفون جميعا عن الحرية والاستقلال؟.

«إذا تصورنا أنها إعلان المستعمر القديم بأنه سوف يسحب حامياته من أراضينا ثم يوقع قصاصة ورق فهذا هراء.. ذلك سهل.. وهم على استعداد لأن يفعلوه غدا ولكن ماذا بعد؟.. هل سألتم أنفسكم هذا السؤال؟.

«قلت لكم إنكم تثيرون فزعى لأنكم لا ترون ما هو أبعد من موقع أقدامكم.. تشغلون أنفسكم باللحظة التى مضت وليس باللحظة القادمة.

« تطلبون الاستقلال؟.. حسنا.. وتطلبون الحرية.. حسنا أيضا.. سوف يعطونكم ما تطلبون وسوف يوقعون معكم قصاصات ورق.. لم يعد فى ذلك شك لأسباب كثيرة أولها أنه لم يعد فى مقدورهم أن يسيطروا عليكم بقوة السلاح.. ولسبب ثان بعده هو أنهم لم يعودوا راغبين فى السيطرة عليكم بقوة السلاح.

«انتشار الأسلحة الصغيرة بعد الحرب الكبرى الأخيرة جعلكم أقدر على المقاومة المسلحة واختلاف أوضاع العالم جعلهم فى غنى عن استعمال السلاح.

«وإذن فإنهم سوف يتنازلون (قالها بسخرية) ويوقعون معكم قصاصات ورق.. حسنا.. ماذا بعد؟.

«سوف تتولون المسئولية.. سوف تجدون أنفسكم رؤساء لشعوبكم لديكم قصور رئاسية ولديكم حرس وناس ولديكم سيارات رئاسية وربما طائرات.. ليس هذا هو المهم!

«هل ستجدون لديكم سلطة رئاسات؟ لست متأكدا!

«سوف تجدون لديكم سلطة على رعاياكم ولكن لن تجدوا لأنفسكم سلطة على غيرهم.

«رعاياكم سوف يطلبون منكم جوائز الاستقلال.. من حقهم أن يتوقعوا تحسن أحوالهم بعد الاستقلال فهل لديكم ما تعطونه لهم؟.

«أشك كثيرا.. لماذا؟.. لأنكم جميعا منهوبون مواردكم نهبت فعلا أو هى مربوطة بنظم دولية تواصل عملية نهبها؟.

«ولماذا لم تكن لديكم سلطة غير سلطتكم على رعاياكم وإذا كان هؤلاء سوف يطالبونكم بما سوف تكتشفون أنه غير موجود فماذا ستفعلون؟ تغيرون اتجاه سلاحكم من أعدائكم القدامى إلى أعداء جدد سوف ترونهم داخل بلادكم؟ ماذا ستفعلون؟.

«سوف تجدون فى بلادكم طبقات أكثر قوة من جماهير شعوبكم لأنهم تعلموا كيف يتعاملون مع النظام القديم وفى ظله وحماه كونوا ثروات ورتبوا مصالح.. إلى من ستنحازون؟.. إلى القلة القوية أو إلى الأغلبية المقهورة؟.

«بعضكم سوف يقول إن لديه موارد ولكنها غير مستغلة بواسطة الآخرين ولصالحهم.. حسنا.. بعض رفاقنا هنا فى هذه القاعة لديهم بترول وبعضهم لديه نحاس وبعضهم زنك وحديد وذهب وماس أيضا.. ماذا سيفعلون بهذه الموارد؟.. أحدنا قد يتحمس ويعلن أمامنا أنه ينوى استرداد هذه الموارد من أيدى غاصبيها.. حسنا.. مصدق فعلها فى إيران وأمم البترول فماذا كانت النتيجة؟.. ود نفسه فى طريق مسدود بالحصار ثم وجد نفسه فى السجن حتى الآن بانقلاب مضاد.

«إن مستعمريكم السابقين رتبوا أنفسهم قبل أن يوافقوا على الاستقلال وأقاموا أوضاعا جديدة تستبدل أعلامهم القديمة بأعلامكم الجديدة ولكن هل سيغير هذا من واقع الأمر شيئا؟.

«سوف تجدون أنفسكم أمام مشاكل وسوف يندفع بعضكم إلى أن يطالب من صندوق النقد الدولى أو البنك الدولى قروضا فهل سألتم أنفسكم من هؤلاء الذين يسيطرون على صندوق النقد الدولى وعلى البنك الدولى.

«أى أنكم سوف تذهبون إلى الأسياد القدامى طالبين منهم أن يساعدوكم على مسئولية الاستقلال».

«وأى وضع هذا الذى يستنجد فيه الضحية بالجانى حتى يساعده على تلافى آثار جريمته جريمة الاستعمار التى لن تصححها قروضه وإنما سوف تزيدها سوءا».

«لن تكون هذه هى المشكلة الوحيدة التى تواجهكم.. لاحظوا أن حقوق الحرية التى طالبنا بها وناضلنا من أجلها كأوطان سوف تحدث أثرها فى داخل هذه الأوطان.. بمعنى أن جماعات كثيرة داخل أوطانكم سوف تطالب بحقوق فى الداخل سكتت عليها لأنها اختارت ألا تكسر الوحدة الوطنية فى ظروف المطالبة بالاستقلال ولكنها بعد توقيع قصاصة الورق سوف تجد أن الفرصة ملائمة لتطالب.. أقليات عرقية وعنصرية ودينية سوف تطالب بترتيبات خاصة.. نوع من الحكم الذاتى.. نوع من تحقيق الهوية الذاتية.. وربما يكون هناك تشجيع من قوى السيطرة القديمة فقد تعلمت بتجربتها أن تتعامل مع الأقليات من كل نوع.

هل هذا كل شيء؟.

«إنكم سوف تجدون أنفسكم بعد الاستقلال فى مشاكل حدود مع جيرانكم.. خرائط معظم بلدانكم جميعا خرائط جديدة رسمها الاستعمار.. فى بعض مناطق إفريقيا تحددت خطوط الحدود بالنقطة التى وصل إليها رحالة من هذه البلدان أو شركة من بلد آخر أو حامية عسكرية من هنا أو هناك.

«وماذا ستفعلون؟ هل ستدخلون بعد الاستقلال فى حروب مع جيرانكم.. مع بعضكم؟.

«حسنا سوف نجد أنفسنا فى سباق سلاح مع هؤلاء الجيران.. سوف نصنع جيوشا محلية.. ولأن كل البنى الاجتماعية والاقتصادية لدينا هشة فإن هذه الجيوش ينتهى بها الأمر إلى أن تأمرنا بعد أن كانت تنتظر الأمر منا».

«سمعت بعضكم يتحدث عن عضوية وكأنها ملكوت الله.. تطلبون فتجابون.. هل هذا صحيح؟.. الأمم المتحدة بلا فاعلية.. ربما يقول لى بعضكم إن خول عدد كبير من الدول حديثة الاستقلال إليها سوف يحقنها بالفاعلية.. أخشى أن العكس سيحدث.. استطيع أن أرى المستقبل أمامى بوضوح حين يصبح عدد أعضاء الأمم المتحدة مائة أو مائة وعشرين أو مائة وأربعين عضوا.. ليكن.. وليكن بينهم مائة دولة حديثة الاستقلال ما هو أثر ذلك؟ أثره كارثة محققة.. هل هى مسألة عدد أصوات؟ وماذا سيفعل عدد الأصوات بالأمم المتحدة؟ كيف يمكن أن تقبل الولايات المتحدة أن يتساوى صوتها مع صوت كوستاريكا أو يقبل الاتحاد السوفيتى أن تصبح قيمة صوته هى نفس قيمة صوت أفغانستان؟».

«لن يقبلوا المساواة فى الأصوات.. فى قوة الأصوات.. وبصراحة شديدة فإننى معهم فالقوة الحقيقية فى العالم لم يمكن أن تتحقق بعملية حساب تجمع أو تطرح فيها الأصوات».

« وإذن سوف يتركون لكم الأمم المتحدة تتكلمون فيها على هواكم ثم تكتشفون أنها أصبحت مجرد ناد أو مقهى يذهب إليه المندوبون ليشربوا الشاى ويلعبوا.. بدل أن يلعبوا الورق يلعبوا بالكلام».

«إننى لا أقصد أن أزرع اليأس فى قلوبكم ولكننى أريدكم أن تأخذوا قضية الاستقلال جدا.. إنكم أو بعضكم على بابه فعلا ولكن جواز الدخول إليه ليس بقصاصات الورق التى توقعونها مع مستعمريكم القدامى.. جواز المرور إليه أن تكونوا جادين.. أن تستشعروا أن كلمة الاستقلال وكلمة الحرية ليست تعبيرات فرح وإنما هى أثقال مسئولية.. مسئولية مخيفة.. هذا ما أريدكم ن تفهموه».

«إن السيطرة الجديدة لن تكون بالجيوش ولكن بالتقدم.. التقدم هو وسيلة السيطرة الجديد.. أنتم متقدمون إذن فأنتم سادة.. أنتم متخلفون إذن فأنتم مقهورون مهما وقعتم من قصاصات ورق ومهما رفعتم من قصاصات قماش سميتموها أعلاما».

«وأسألكم ما هو التقدم؟.. اجتماعى بالدرجة الأولى.. من منا يستطيع أن يعطى لشعبه نظاما اجتماعيا يحقق العدل لجماهيره وبأى ثمن؟».

«سوف تأخذنا جميعا حمى التنمية وسوف نتكلم عنها ونملأ الدنيا كلاما ولكن هناك سبيلا واحدا للتنمية وهو العلم فماذا لدينا منه؟ أخشى أننا سوف نجد مصائر التنمية عندنا فى أيدى بيروقراطيات متعفنة فى بعض البلدان وعاجزة فى بعضها الآخر».

«شكرا سيدى الرئيس لقد أخذت من وقت اللجنة الموقرة أكثر من ساعة ولكننى وجدت أن من واجبى أن أغوص قليلا فى تبعات الاستقلال بعد أن سمعت رفاقا كثيرين لنا يتحدثون شعرا ونثرا عن مباهجه».

«وساد صمت.. ثم انفجرت القاعة بالتصفيق وراح نهرو ينظر حوله فى دهشة : «لقد أراد أن يثير فزعهم كما أثاروا «فزعه إلى حد الموت «طبقا لتعبيره فإذا هم يصفقون له».

مرت 63 سنة على تحذيرات نهرو للدول حديثة الاستقلال ولكنها لم تأخذ بها ووقعت فيها فظلت فى مكانها دون تقدم بل ربما أصبحت أسوأ مما كانت عليه تحت حكم الاستعمار ولكن فى الوقت نفسه لا يزال تشخيص نهرو صالحا لكى تستفيد منه بمراجعة أخطائها والأخذ بنصائحه حتى تنجو من متاعبها المزمنة التى تتزايد يوما بعد يوم.