عادل حمودة يكتب: مصر من فجر الضمير إلى صناعة المستقبل فى تلاقى شباب الدنيا على أرضها

مقالات الرأي



رأيت شرم الشيخ وسط دموع المجندات الاسرائيليات لحظة رحيل الاحتلال

حوارات ميلاد حنا معى ومع هيكل وعادل إمام ولينين الرملى كانت تثير غضب مبارك

لقد عدت شابا لأيام قليلة فى منتدى شباب العالم والمستقبل لمن يمتلك مفاتيح التكنولوجيا الحديثة

كنت مستعدا للوقوف يوما بكامله فى طابور الضيوف لمصافحة «نيلسون مانديلا» وشاهدت تواضع حفيده فى مصر


كنت مستعدا للوقوف يوما بكامله فى طابور الضيوف الذين جاءوا لمصافحة نيلسون مانديلا فى جوهانسبرج العاصمة السياسية لجنوب إفريقيا ولكن الانتظار لم يزد كثيرا عن ساعتين.

لحظة تاريخية فى حياتى نسيت تفاصيلها من شدة الانفعالات العاطفية التى سيطرت على مشاعرى وأنا أضع يدى فى يد زعيم غير الدنيا بتأملاته الروحية داخل زنزانته العنصرية.

عشت تلك اللحظة من جديد وحفيد مانديلا زون داوا يتحدث فى الجلسة الافتتاحية للمنتدى الثانى لشباب العالم فى شرم الشيخ مستعرضا سيرة وصور جده بتواضع واضح يضاعف من الإعجاب به.

وفى جلسة كيف نصنع قادة المستقبل تذكرت قصة رواها مانديلا فى مذكراته تضع خطا تحت أهم صفة يجب أن يمتلكها القائد:

فعل الرجل كل ما فى وسعه للتخلص من الأرواح الشريرة التى تسكن بيته، ولكنه فشل تماما فلم يجد مفرا من أن يغادر بيته وقريته.. وضع أمتعته فى عربة.. وانطلق يبحث عن مكان آخر.. فى الطريق سأله صديق التقى به: إلى أين؟.. وقبل أن يجيب سمع صوتا مختلفا يقول: نحن مرتحلون.. كان الصوت لواحد من الأرواح الشريرة.. ظن الرجل أنه يخلفهم وراءه.. ولكنه.. فى الحقيقة كان يرحل معهم.

المغزى من القصة: لا تهرب من مشاكلك بل واجهها لأنك فى حال لم تعالجها لن تبارحك أبدا.. عالج المشكلة التى تطرأ عليك بشجاعة وإلا قضت عليك.

لم ينس مانديلا ذلك المغزى وهو يتحول من محام إلى زعيم مضيفا: يتطلب النجاح فى السياسة إقناع شعبك بآرائك والتعبير عنها بكل وضوح وأدب وهدوء ولكن الأهم التعبير عنها بصراحة.

والحقيقة أن المنتدى الذى وفر أياما من التلاقى بين خمسة آلاف شاب من جنسيات وثقافات متنوعة استلهم شعار مانديلا الخالد: إننا لسنا مجبرين على تقبل العالم على ما هو عليه وأن فى مقدورنا أن نسعى بدورنا إلى جعل العالم كما يجدر به أن يكون.

وبتلك الروح السامية تأكد أن مصر مكانا مثاليا لهذا التلاقى.

فعلا.. يجب تحية من فكر فى استحضار الدكتور ميلاد حنا ليدلل بكتابه الأعمدة السبعة للشخصية المصرية على أن مصر بموقعها الجغرافى وتاريخها الحضارى تمتلك كل جينات العالم منذ خلق الله الأرض ومن عليها.

صنعت فجر الضمير بالقيم الدينية والأخلاقية التى صاحبت الحضارة الفرعونية لتؤكد أن البشر أهم من الحجر وأن البناء مهما كان شاهقا سيسقط أطلالا إذا لم تصحبه فضائل الحب والود والتسامح.. وبتلك الفضائل خصها الله بمعجزة الكلام مع نبيه موسى.. واستقبلت العائلة المقدسة وحمت السيد المسيح من القتل بسيوف وخناجر الحكام المتعصبين فى بيت لحم.. مسقط رأسه.. وما إن دخلها الإسلام حتى فرضت على عمرو بن العاص مبدأها الشهير: من شاء فليؤمن ومن شاء فليبقى على دينه.. ولا تزال تؤمن بذلك رغم الثمن الباهظ الذى تدفعه فى حربها ضد الإرهاب.. العدو المزمن لحرية العقيدة التى تؤمن بها.

وهو ما لخصه الفيلم التسجيلى الممتع الذى شاهدناها فى الجلسة الافتتاحية وانتقلت الكاميرا فيه من النوبة إلى سيوة.. ومن سانت كاترين إلى الإسكندرية.. ومن مصر القديمة حيث يلتقى المعبد والكنيسة والمسجد إلى مصر الحديثة المصرة على تنوعها الدينى بمحاربة الإرهاب.. ضيق العقل.. شديد القسوة.. ميت الضمير.

لذلك لم تكن مفاجأة أن يستجيب الرئيس عبد الفتاح السيسى بسرعة لنداء نادية مراد ويطالب المنتدى بتوصية تعتبر جرائم تنظيم داعش جرائم ضد الإنسانية فور أن انتهت من كلمتها المؤثرة فى افتتاح المنتدى.

إن الفتاة اليزيدية التى نجت من الاغتصاب والقتل على يد ذلك التنظيم السفاح لم تنس ما جرى لشعبها واستفادت من حصولها على جائزة نوبل للسلام فى الترويج لحق البشر فى الاختلاف الذى خلقنا الله عليه لنتكامل معا.. فلسنا متشابهين مثل حبات الأرز.. لكننا متنوعون مثل الأحجار الكريمة.

وفى جينات الشخصية المصرية ملح البحر المتوسط الذى تطل عليه.. وتقاليد البداوة العربية فى صحاريها.. وسمرة إفريقيا التى تقف حارسة على بوابتها.. وممرات الثقافة الآسيوية فى سيناء التى تفتحها لكل من يأتى بالخير.. وتغلقها فى وجه كل من يحمل الشر.. ولعل مراجعة تاريخ الحرب والسلام مع إسرائيل يمنحنا الكثير من الإيمان بذلك.

والحقيقة أن ميلاد حنا الذى عرفته سنوات طوال يمتلك هذه الجينات.. تشرب الحرية السياسية والدينية فى مبادئ ثورة 1919.. وظف خبرته فى الهندسة لبناء مساكن رخيصة وصحية للفقراء.. بنى جسرا قويا على النيل لدعم العلاقات الشعبية بين مصر والسودان.. لم يخش غضب البابا شنودة ونحن نزور معا الأب متى المسكين فى استراحته على شاطئ الساحل الشمالى عند مدينة الحمام.. كان ذلك الراهب المثقف يرى أن البابا يرعى الأقباط روحيا تاركا شئونهم الأخرى للدولة.. طبقا للمبدأ الشهير: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله.. ولم يقبل بأن تحرم الكنيسة كبار السن من الصلاة عليهم بعد وفاتهم بسبب زيارتهم لكنيسة القيامة وقبر المسح فى القدس.

وفى الوقت نفسه طالب الدولة بحرية بناء الكنائس ونشرت له مقالاته الجريئة فى ذلك الاتجاه حتى سمحت الدولة ببناء كنيسة فى الساحل الشمالى على أطراف مارينا تولى تصميمها والإشراف على تشييدها.

على أنه لم يكن ينسى دعوتنا هو وزوجته إيفلين رياض على إفطار فى رمضان يحضره هيكل وعادل إمام ولينين الرملى وغيرهم من الرموز المؤثرة فى المجتمع ليتعقبه مناقشة جادة لقضية وطنية جادة منها كيفية إقناع نظام مبارك بالتغيير من داخله؟.. ومنها كيفية تذكيره بالبعد الإفريقى المنسى لحماية حقنا فى مياه النيل؟.. وكيفية إزالة أسباب الاحتقان الدائم فى قضية الوحدة الوطنية؟.. مثلا.. وكنت أستفيد من المناقشات الصريحة التى كانت تمتد أحيانا إلى السحور بنشرها.. وتحملت وحدى غضب النظام بنشرها، ولكنها كانت تستحق المغامرة.

لم يكن إحياء ذكرى ميلاد حنا تكريما لشخصية مميزة فقط وإنما رسالة من العالم لأجيال جديدة فى العالم كله بأن مصر لم تكن فى يوم من الأيام جلادا وأن النيل الذى يجرى فى عروقها يحمل خصوبة من نوع خاص تسمح باستضافة الدنيا على أرضها دون تمييز ليذوب البشر وسط شعبها وكأنهم جزء منه.. فلا معسكرات لعزلهم.. ولا تحديد لحركتهم.. فقد دخلوها آمنين.

ولا شك أن كبار السن مثلى يستردون الكثير من حماسهم عندما يجدون أنفسهم وسط الشباب.. ولكن.. المشكلة أننا لا نمتلك مفاتيح وأسرار التكنولوجيا المتفجرة التى برعوا فى استخدامها.. مما يفرض علينا التنحى لترك الطرق أمامهم مفتوحة بعيدا عن عقدنا وتسلطنا ونظرتنا القديمة للعالم.

ما إن هبطت مطار شرم الشيخ حتى استقبلنى شباب مهذب متواضع يحمل فى يده أجهزة آى باد عليها برنامج يحدد فى نصف دقيقة عليها مكان كل ضيف والجلسات التى سيحضرها ولكن بشرط أن يحمل الكود الخاص به.

ومن مكان إلى آخر يقودك شاب إلى ما تريد فى تنظيم جيد يصعب معه تخيل كيفية اختيار المشاركين فى المنتدى والمتحدثين فى جلساته والطابعين لنشراته والمستقبلين والمودعين لضيوفه والموفرين لخدمات الفنادق والتنقلات لذلك العدد الضخم من الحضور.

ولابد أن تتساءل متى وكيف بنيت قاعة المؤتمرات الجديدة التى تستوعب ثمانية آلاف شخص؟.. كما لابد أن تتساءل عن الديكور المتميز الموحى بالتفاؤل بلونه السماوى الصافى وصور الفتيات اللاتى يمثلن جنسيات المنتدى.. من فتاة إفريقية سمراء فى لون الشيكولاتة إلى فتاة مصرية فى لون الكابتشينو.. ومن فتاة صينية تشع المحبة من عينيها الضيقتين إلى فتاة لاتينية تتفجر الحيوية من عينيها.

وخرجت هذه الصور من قاعات المؤتمر لتسيطر على مدينة شرم الشيخ كلها.

أنا أعشق هذه المدينة بجنون.. رأيتها تحت الاحتلال وأنا مراسل عسكرى أغطى الانسحاب الإسرائيلى منها وسط سيول من دموع المجندات الإسرائيليات.. وكأنهن فقدن أزواجهن أو مساحات سعيدة من ذكرياتهن.

فى بداية يونيو 1981 التقى السادات وبيجن فى شرم الشيخ التى لم يكن فيها سوى نزل متواضع يخدم هواة الغوص وعدة عمارات يسكنها موظفو الإدارة الإسرائيلية ومدرسة للبيئة تطل على خليج نعمة كانت فى الحقيقة مركزا للموساد.

وما إن تحررت المدينة حتى راحت تنمو فندقا بعد آخر حتى أصبحت واحدة من أهم المنتجعات السياحية توفر لمصر أكثر من خمسة مليارات دولار فى العام.

ولكن شاء التربص بنا أن نتخلص من عدو إسرائيلى يتكلم العبرية لنحارب عدوا داخليا إرهابيا يتكلم العربية وتعرضت المدينة التى حملت صفة السلام إلى أكثر من عملية تفجير ولكنها تحملت ما أصابها وتجاوزته دون أن تفقد جمالها وفتنتها.

وفى اليوم السابق لافتتاح المنتدى شاء أعداء الحياة أن يفسدوا علينا الفرح بحادث الاعتداء على أقباط فى المنيا كانوا يقصدون ديرا للصلاة وطلب الشفاعة لهم ولوطنهم.

ولكن ذلك لم يمح تأثير مشهد الرئيس وهو يتجول بدراجته فى شوارع المدينة ليثبت أنها آمنة.

جاء الحادث بوجع فى قلوب المشاركين فى المنتدى ولكنه فى الوقت نفسه أثبت لشباب العالم المشاركين فيه مدى قسوة الإرهاب، مما جعلهم ينحازون إلينا بعد أن تألموا مثلنا والمؤكد أنهم بعثوا برسائل مطمئنة إلى أهاليهم بأن مصر رغم ما تتعرض له دولة مستقرة.

لم يتغير جدول أعمال المنتدى وراح المشاركون فيه يبحثون عن سبل التواصل الفنية والثقافية والسياسية بين بعضهم البعض، ولكن كان واضحا أن أكثر ما يشغلهم هو المستقبل وهو انشغال نسيه الكبار الذين لم يبرحوا الماضى الذى عاشوا فيه.

حرصت على متابعة الجلسات التى تناقش أثر التطورات التكنولوجية السريعة على التعليم والتشغيل واعترف أننى فوجئت بما سمعت.. ربما تختفى المدارس والجامعات ليتعلم أبناؤنا وأحفادنا بجهاز صغير يحملونه فى أيديهم.. وربما لا تكون الشهادات العليا المصدر المهم للثروة.. يكفى أن شابا مراهقا يتوصل إلى برنامج ما ليكسب من ورائه الكثير من المال.. وربما انكمشت أعداد المستشفيات بعد أن يضع الإنسان حول معصمه ساعة رقمية تقيس الضغط والسكر والكولوسترول وتتصل بطبيبه المعالج الذى يقدم إليه النصائح الصحية فى لحظتها دون الحاجة للسماعة الشهيرة.

ولكن ما لفت نظرى أن الصحف والفضائيات لم تركز على ما علينا القيام به للتفاهم مع هذا المستقبل مما يعنى أن ما جرى فى هذه الجلسات شديدة الأهمية ظلت محبوسة داخل المنتدى، وربما لهذا السبب أجد من المناسب أن نخصص قناة تليفزيونية تعرض جلسات المنتدى وتأتى بخبراء ليشرحوا ما جرى فيها ليستفيد منها الشباب الذى لم يخدمه الحظ ويحضر المنتدى.

لقد عدت شابا لأيام قليلة فشكرا لمن منحنى هذه الفرصة.