د. رشا سمير تكتب: النجمة وتاجر المشاعر

مقالات الرأي



الرجال أنواع.. رجل مذاقه القوة ورجل عنوانه الضعف.. رجل رداؤه الغيرة ورجل ملمسه الحنان..

تعشق المرأة الرجل الحنون وتحتمى بالرجل القوى وتسكن فى كنف المُخلص وتنكسر أمام النرجسى..

هكذا تتشكل العلاقات وهكذا ترتحل النساء إلى عوالم الرجال فإما أن يسكن إليهم فى مؤسسة الزواج بكل تحدياتها، وإما أن تبقى العلاقة مجرد علاقة عشق خالص دون قيود تحكمها أو عوائق تقتل دقات القلوب..

النساء كن دائما بطلات الأشعار والأغنيات.. تغنى بهن محمد فوزى فى وصف الزهور.. حتى أصبحت جملته هى عنوان كل النساء.. فلكل لون معنى ومغنى..

ونزار قبانى كتب عنهن يقول:

(أريدك أنثى لتبقى الحياة على أرضنا ممكنة وتبقى القصائد فى عصرنا ممكنة

وتبقى الكواكب والأزمنة وتبقى المراكب، والبحر، والأحرف الأبجدية)

هناك ألف نوع من الرجال.. كلهم فى النهاية هم صورة لرجل واحد.. نفس الطباع والتفكير والطريقة..

لم تختلف النساء يوما على القوى ولا الثرى ولا الحنون.. لم يختلفن أيضا على العصبى ولا الحاد ولا البخيل.. لم يختلفن إلا على صنف واحد فقط من الرجال.. هو هذا الرجل!.

من هنا بدأت الحكاية:

قابلته فى سهرة مختلفة على مركب خاص يمتلكه أحد رجال الأعمال.. كانت الأنظار كلها تلتفت إليها.. والعيون تحاصرها.. والإعجاب يفيض من الصدور كلما تحدثت أو تحركت أو ضحكت فى دلال..

بيضاء البشرة.. شعرها الغجرى الممزوج بلون الشمس يسافر فى كل الدنيا.. جمالها مُعطر بعبق أزهار الياسمين.. وجسدها المنحوت بدقة جعل من وجودها فى أى مكان بيجماليون العشق.. فكانت مثل القنبلة الموقوتة التى توشك على الانفجار فى وجه كل من يقترب منها.

مثل كل بنات المنصورة.. امتلكت الجمال والدلال.. ولدت لأب سورى وأم مصرية.. ولدت وترعرعت فى تلك المدينة الصغيرة الساحرة.. فسكنها خليط طمى النيل ونهر الفرات.. فكانت كلما تحكى تنهمر الحروف بمذاق الكرز الدمشقى من فوق شفتيها.. وكلما تخطو تنساب خطواتها مثل الأقحوان النائم داخل جزيرة الورد..

توفى أبوها وهى فى العاشرة من عمرها فتزوجت أمها من عازف أكورديون يصغرها بعشرة أعوام.. يعمل فى أحد الكباريهات البائسة خلف راقصة درجة ثالثة لتُصبح عائله الوحيد هى.. زوجته..

دون أن يُخطط اتجهت أنظاره إلى ابنة زوجته الصغيرة التى وقعت بين أيدى خراط البنات ليمنحها الاستدارة والإثارة.. فتتحول فى سنوات قليلة من فتاة صغيرة إلى كائن يفيض بالأنوثة..

عاد سكرانا يترنح فى أحد الأيام لينقض على ابنة زوجته ويفترسها فى لحظات سيطر فيها الشيطان على حواسه..

لحظات تحولت فيها الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعا إلى جنية شريرة من جنيات الأساطير أو قطعة نار توشك أن تحرق كل من يحاول الاقتراب منها..

خرجت فى منتصف الليل تجرى من البيت إلى الخارج دون تفكير..

هكذا وقعت بين أحضان الشارع بكل موبيقاته وآثامه.. فمن التسول إلى المخدرات إلى العشق مدفوع الأجر فوق أسطح البيوت حتى التقطها مخرج أفلام مقاولات يكبرها بعشرين عاما..

عقب أن تناولها فى إحدى الليالى واستحسن مذاقها قرر الزواج بها ليصنع منها شيئا آخر بعد أن رأى أن جمالها الفقير من الممكن تحويله بسهولة إلى استثمار من نوع آخر.. إلى مشروع أكثر ثراء..

دفعها إلى عالم الشُهرة من بابه الخاص.. لتصبح فتاة إعلانات وتظهر لأول مرة على لافتات الإعلان بالشوارع.. توجها بطلة واحتكر نجاحها..

على الرغم من النجاح الذى حققته والنقلة التى أخذتها من دنيا الفقر والشوارع إلى دنيا أكثر نعومة.. قررت الهروب..

قررت الهروب من كل شيء ومن أى شىء يربطها بماضيها.. قررت الفرار من المدينة الهادئة إلى المدينة الصاخبة.. إلى القاهرة..

أرض البريق والنجومية.. المدينة التى خرجت منها أفلام رمسيس نجيب والتى أضفت على فاتن حمامة الوهج ومنحت عمر الشريف عالمية الإبداع.. ..

هربت من زوجها وتركت له الطفلة الصغيرة التى أنجبتها من جراء معاشرة كانت تقتلها كل ليلة بفارق السن.. هربت من ماض لم يكن لها يد فيه.. إلى مستقبل قررت أن تكتبه بنفسها.

هربت ولم تفكر سوى فى نفسها.. فقد تعلمت الأنانية من جحود الآخرين.. وأطلقت مخالبها بعد أن أيقنت أن البراءة لن تمنحها تأشيرة البقاء!.

من المنصورة إلى القاهرة.. جاءت لتصنع نجومية من نوع آخر.. على الرغم من تواضع موهبتها إلا أن جمالها جعل منها نجمة لها وزن كبير فى غضون أعوام قليلة.. أصبحت نجمة لامعة من نجوم السينما..

ولأن النجومية لها حسابات أخرى فقط لمن يريد البريق الزائف، فقد أصبحت مع الوقت فاكهة كل السهرات الخاصة وحفلات رجال الأعمال وكبار رجال الدولة..

عشق بشروط:

هناك التقته على سطح ذلك المركب العائم.. شاب طموح.. يبدو من مظهره أنه يمتلك الذوق ولا يمتلك المال.. يحاول الوصول إلى القمة بعد أن داسه الكثيرين فى القاع..

تعلم منذ أن كان صغيرا أن للنجاح ألف وجه وأن التنازلات الصغيرة تصنع أحلاما كبيرة.. وأن من أجل أن نعلو ونرتفع لابد أن نطاطى ثم نُطاطي!.

وقف فى ركن بعيد يرقبها وهى ترقص بعينين تفيضان بالرغبة والإنكسار فى آن واحد..

سألت عنه، فأخبروها أنه يعمل مع أحد رجال الأعمال فى مهنة من أهم المهن فى مصر.. يُطلق عليها لقب «المشهلاتى»!..

المشهلاتى فى كل المجتمعات هو رجل المهام الصعبة أو بدقة أكثر المهام القذرة!..

نجح فى تلك المهنة بامتياز ومازال يبحث لنفسه عن مكان تحت الشمس..

تعلم من الحياة أهم مبادئها.. تعلم أن يبيع أصدقاءه للأعداء.. ويبيع مبادئه لمن يدفع أكثر.. ويبيع النساء لمن يبحثون عن المتعة.. وقد يبيع أعضاءه إذا تقتضى الأمر!.

إلتقيا وهما يحملان نفس العنوان ويمتلكان نفس الملامح.. الفارق الوحيد أنه ذكرى ماضيها، وهى عنوان مستقبله.

عقب نزولهما من المركب.. .طلبت من سائقها أن ينصرف بسيارتها المرسيدس وركبت بجواره سيارته المتهالكة.. وانطلقا..

قضيا ليلة من ليالى ألف ليلة وليلة.. اهتم هو بكل تفاصيلها حتى امتلك قلبها فى ساعات.

بعد ثلاثة أشهر من علاقتيهما التى حاولا أن يبقياها سرا.. أعلنا زواجهما..

وافقت بشرط واحد وبعقد مختلف عن عقد الزواج المعتاد ملخصه جملة واحدة قالتها له بكل حزم:

«موافقة بشرط واحد.. ألا يتدخل أحد منا فى عمل الآخر»

فلا هى تفهم فى التجارة.. ولا هو يفهم فى الدعارة!..

ولكن.. ..

المفاجأة أنها اكتشفت بعد وقت قصير أن زوجها هو ذاك النوع الوحيد من الرجال الذى اختلفت عليه كل النساء.. فلا هو رجل قوى ولا ضعيف ولا حنون ولا ثرى ولا بخيل..

هو محجوب عبد الدايم فى (القاهرة 30).. وممدوح فى رائعة إحسان عبد القدوس (دمى ودموعى وابتساماتى)..

هو ذاك الرجل الذى يصطحب زوجته إلى غرفة رجل آخر ويقبلها فى جبينها قبل أن تبدأ مهمتها ويعود إليها فى المساء ليأخذها بين أحضانه وكأن شيئا لم يحدث!.

هو ذاك الرجل الذى يعتلى جسد زوجته مثل درجات السُلم ليصل إلى أعلى درجة من درجات المال والنجاح والشُهرة..

هو الرجل الذى يقبع فى أعلى مكان فى الدنيا.. مكان يُطلق عليه.. أسفل السافلين!.

ولأن المرأة لا تبحث إلا عن رجل قوى يحتويها ويحتوى أحلامها.. ولأنها حتى لو كان هدفها رجلا تتحكم فيه إلا أنها تمل الرجل الضعيف وتلفظ المنكسر وتشمئز من الديوث..

هكذا فترت العلاقة بين النجمة وزوجها الشاب الذى ابتز أنوثتها ليحقق أحلامه..

وبعد أن كانت تلتقط الدولارات وترمى إليه ببعضها.. قررت أن تحتكر هى الأخرى تجارة جسدها!.

فأصبحت تخرج من ورائه وترتاد أماكن السهر بدونه وتقبض أتعاب لياليها من يد المورد إلى البنك دون وسيط..

شعر بالإهمال وشعر بتعاليها عليه وقرر أن يستخدم سلطاته الذكورية التى لا يمتلك غيرها ليكسب المعركة.. بعد أن أصبح أضحوكة السهرات الليلية فى القاهرة..

فى إحدى الليالى استوقفها على باب المنزل وقال لها بلهجة آمرة:

« لن تخرجى الليلة»

التفتت إليه بشىء من الاستهزاء وأطلقت ضحكة مثيرة وقالت:

«اعطنى دليلا واحدا»

رد وقد علا الغضب ملامحه:

«الدليل أننى زوجك ورجل هذا البيت.. أم نسيتى؟!».

ردت وهى تسوى شعرها أمام المرآة وتضع أحمر الشفاه:

«زوجى.. يجوز، ولكن رجل.. أشك!»

«لو قررتِ أن تتحدينى سوف أطلقك وستخسرين الكثير»

« يبدو أنك قد نسيت.. العصمة فى يدى.. ورقة طلاقك ستصلك غدا».

كلنا نقترف أخطاء وصناعة الآثام هى صناعة بشرية بحتة ولكن..

كل الأخطاء قد يمحوها الندم.. وكل الآثام تتوارى بالاستغفار.. وكل الجرائم تسقط بالتقادم.. إلا تلك الخطيئة.. إلا تلك التركيبة من الرجال.. إلا هذا الإثم..

إثم الرجل الذى يجلس فى سيارته ينظر إلى ساعة يده حتى تنقضى بمرور الدقائق كل الصور واللقطات التى تمر بمخيلته وكأنه يشاهد فيلما لامرأة لا يعرفها.. ثم تعود إليه امرأته.. فلا يسألها ولا يستجوبها ولا حتى يستطيع أن يرفع عينيه فى عينيها..

لكنه يستطيع وعن جدارة أن يمد يده ليقبض مقابل إنهزام رجولته وأتعاب غضه للبصر!.

إنها نفس اللقطة الشهيرة فى رواية (القاهرة 30) التى اكتشفت فيها زوجة الباشا أن زوجها على علاقة آثمة بزوجة سكرتيره الشخصى محجوب عبد الدايم.. فقررت أن تهدم المعبد فوق رؤوس الجميع وسط ذهول الباشا وندم العشيقة وحالة من الاستنكار للرجل الذى باع زوجته..

فلا أبدى محجوب عبد الدايم ندمه ولا أقر بالخطأ ولا عدل عن رأيه..

فقط غمغم بصوت لا يكاد يُسمع هامسا:

« طُظ».. ..