مؤتمر أقليات سعد الدين إبراهيم زرع الفتنة الطائفية فى جسد الأمة العربية حتى انهارت.. صفحات من مذكرات.. عادل حمودة (29)

العدد الأسبوعي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة


هيكل يقبل بدعوة فؤاد سراج الدين للكتابة فى الوفد وأحمد أبو الفتح يمنعه من النشر

جيل جيب أشهر باحث فى الإسلام السياسى قال لى: قادة التنظيمات الإرهابية استخدموا المنهج العلمى فى التفسيرات الدينية

عبد الناصر قضى على الأحزاب السياسية الليبرالية واليسارية فاقتصر الصراع على المؤسسة العسكرية والتنظيمات الدينية


فى صيف عام 1981 كلفت من «روزاليوسف» بتغطية زيارة الرئيس أنور السادات إلى النمسا ولكن ما أن دخلت لوبى الفندق المطل على ميدان الأوبرا حتى وجدت رجلا أنيقا فى منتصف العمر يرحب بى وهو يقدم نفسه: دكتور على السمان.

شخصية اجتماعية سريعة التواصل مع الغرباء خاصة إذا كانوا ينتمون مثله إلى مهنة الصحافة التى مارسها فى فرنسا حيث حصل على الدكتوراة فى القانون وحيث نجح فى توطيد علاقاته مع أجيال متتالية من المسئولين الكبار هناك جعلته يتجاوز دور المراسل الصحفى إلى دور المستشار السياسى للرئيس السادات.

صدمنى السمان بأن الزيارة لن تحدث دون ذكر السبب الذى لم يكشفه لى إلا بعد عشرين سنة ونشرته أول مرة فى صوت الأمة.

لقد كشف المستشار النمساوى برونو كرايسكى مؤامرة دبرتها مجموعة فلسطينية يقودها عصام السرطاوى لتصفية السادات انتقاما منه بعد توقيعه اتفاقية الصلح مع إسرائيل ولم يجد كرايسكى أفضل من السمان لتوصيل الرسالة إلى السادات بأن لا يمر بفيينا وهو عائد من واشنطن ويتجه إلى القاهرة مباشرة.

ولم ينجح السمان فى توصيل الرسالة إلى السادات ولكنه نجح فى توصيلها إلى نائبه مبارك الذى كان مسئولا عن تلقى التقارير الأمنية من الأجهزة المختلفة.

ونجا السادات من القتل فى فيينا ولكنه لم ينج منه فى القاهرة بعد أقل من شهرين وشاءت الأقدار أن أشهد الجريمة فى منصة العرض العسكرى ولكننا لم نعرف من الفوضى التى سيطرت على المكان ما حدث إلا فيما بعد.

فى يوم الجمعة 15 إبريل 1994 أقام السمان فى بيته المطل على نيل الجيزة مأدبة عشاء تكريما للدكتور على الدين هلال بمناسبة اختياره عميدا لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكان أبرز الضيوف محمد حسنين هيكل ومصطفى الفقى ومنصور حسن وزير الثقافة والإعلام الأسبق وجمال بدوى رئيس تحرير جريدة الوفد.

تحدث هلال عن طبيعة النظام السياسى فى مصر الذى تخصص فى دراسته مؤكدا أنه فريد من نوعه حيث تتجمع الصلاحيات فى يد رئيس الدولة ولكن لا يحاسب على الأخطاء إلا رئيس الحكومة.

وتحدث مصطفى الفقى عن الدكتوراة التى نالها من جامعة لندن عام 1977 عن دور مكرم عبيد والأقباط فى الحركة الوطنية.

ولكن الدردشة توقفت طويلا عند مؤتمر حقوق الأقليات فى العالم العربى الذى دعا إليه الدكتور سعد الدين إبراهيم واعتبر الأقباط والنوبيين أقليات ليدس بذور الشرور الطائفية والعرقية والمذهبية التى نمت فى كثير من الدول العربية خاصة سوريا والعراق واليمن حتى فجرتها فيما بعد.

كان سعد الدين إبراهيم يدير مركزا أسماه ابن خلدون وضع المؤتمر تحت لافتته والمذهل أنه أرسل برنامج المؤتمر إلينا لنكتشف أنه وضع أسماء شهيرة فى الفكر والسياسة والصحافة على رؤوس اللجان دون أن يستأذنها وكأنه أراد إقناع الممولين بمزيد من المال الوفير لوجود تلك الشخصيات المؤثرة فى المؤتمر.

كان من رأى هيكل أن الأقباط والنوبيين ليسوا أقلية وأبدى مخاوفه من كثرة الأموال التى تنفق على الأبحاث وتزيد على 100 مليون دولار بهدف تعرية المجتمع المصرى وفتح ثغرات فى نسيجه حتى يتمزق.

وطلب جمال بدوى من هيكل أن يكتب رأيه فى مقال تنشره الوفد ولم يستجب هيكل وإن لم يخف دهشته من الطلب فهو مصنف خصما للوفد لارتباطه الوثيق بعبد الناصر ودوره السابق فى الإجهاز على الحزب بعد ثورة يوليو وعدم تغطيته لجنازة مصطفى النحاس إلا بخبر القبض على من مشوا فيها.

ولكن فى اليوم التالى اتصل بدوى بهيكل قائلا: إن فؤاد باشا سراج الدين رئيس حزب الوفد الجديد تحمس للمقال بل طلب أن يكتب هيكل مقالا أسبوعيا فى الجريدة على أن هيكل اعتذر عن الكتابة الأسبوعية واكتفى بكتابة المقال الخاص بالأقباط فى صورة خطاب مفتوح لرئيس تحرير الوفد.

كان هيكل بعد إعلان انصرافه عن الكتابة الصحفية قد تحايل على ذلك بذكاء بأن جعل المقال فى صورة خطاب مرسل إلى المسئول عن الصحيفة التى يريد نشر وجهة نظره فيها.

ولجأ هيكل إلى تلك الحيلة لسبب آخر هو أنه يرفض أن يرد على ما يمسه مهما كان صادقا أو صارما بالكتابة المباشرة للصحيفة التى نالت منه ولكنه بأسلوب الرسالة المفتوحة وجد مخرجا مناسبا للتوضيح المجبر عليه.

حدث ذلك عندما اتهم بالحصول على عزبة برقاش بطريقة ما فأرسل إلى المصور رسالة مدعمة بالمستندات تثبت نزاهته.

بعد أن قرأ بدوى ما كتب هيكل اتصل به قائلا: المقال دسم مثل ديك رومى وأنه سيسافر إلى تغطية رحلة الرئيس إلى الصين وأنه أعطى تعليماته لمساعده سعيد عبد الخالق ليرسل البروفات إلى هيكل لمراجعتها وتعديلها إذا شاء.

وبعد يومين اتصل عبد الخالق بهيكل وأرسل إليه البروفات وفى اليوم التالى نشرت الوفد إلى جانب المانشيت الرئيسى صورة لهيكل وإشارة إلى مقاله الذى سينشر فى الغد وكان نص الإشارة: الأقباط ليسوا أقلية فى مصر غدا على صفحات الوفد رسالة بقلم الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.

ولكن فى الغد خرجت الوفد بدون المقال وبدون اعتذار أو تفسير مفروض عليها احتراما للقارئ.

واعتذر هيكل عن التعليق عما حدث لكننا عرفنا أن أحمد أبو الفتح تدخل غاضبا لمنع نشر المقال بعد أن قرأ الإشارة إليه ونجح أبو الفتح فى حشد سبعة من أعضاء اللجنة العليا للحزب أقنعوا سراج الدين بمنع المقال.

كان أبو الفتح يمتلك جريدة المصرى المناصرة لحزب الوفد عندما علم بأن فاروق عرف بأمر الضباط الأحرار واستعد للقبض عليهم فأبلغ أبو الفتح زوج شقيقته ثروت عكاشة بالخبر فقدم عبد الناصر ساعة الصفر أسبوعا لتنج حركته فى الإجهاز على النظام الملكى ولكن اختلف أبو الفتح مع النظام الثورى حول قضية الديمقراطية ولم يتردد فى الهرب إلى سويسرا والإقامة هناك ولكنه فوجئ باتهامات يكيلها هيكل إليه ومنها تجارة السلاح والتعامل مع جهات معادية وكرر هيكل ما نشر بعد وفاة عبد الناصر فلجأ أبو الفتح إلى القضاء لكنه خسر قضيته.

كان متوقعا أن يعترض أبو الفتح على نشر رسالة هيكل فى الوفد ولكن غير المتوقع أن تنكسر إرادة سراج الدين داخل الحزب وهو ما جعل «روزاليوسف» تنشر ما جرى فى الكواليس تحت عنوان إعلان هزيمة سراج الدين وكان ذلك بالطبع كفيلا بأن ننال عداوة الحزب والجريدة ليبدأ ضربنا تحت الحزام دون أن يرد علينا بجرأة وصراحة.

إنها تصرفات أنصاف الآلهة التى توزع البركات واللعنات دون أن تتقبل مساسها بكلمة نقد عابرة.

والأهم أن المعارضة التى تطالب بالحرية لا تحتملها.

بل إنها فى كثير من الأحيان قدمت خدمات للسلطة الحاكمة يصعب تصورها فالهجوم الشرس على «روزاليوسف» فى ذلك الوقت قاده جمال بدوى الذى لم يتردد فى قبول تقديم برنامج تليفزيونى بدعوة من صفوت الشريف لم يكن لوجه الله.

وبرغم موقف بدوى غير المفهوم فإننى رفضت طلبا من صفوت الشريف بفتح النار عليه بعد أن هاجم مبارك دون قصد فى مقال نشره بعد حادث أديس أبابا.

وفيما بعد تولى خليفته فى رئاسة تحرير الوفد سعيد عبد الخالق فى إطلاق قنابل كثيفة من الدخان لتغطية قرار إقالتى من روزاليوسف بأن راح يصفنا بإثارة الفتن الطائفية والجنسية ونجحت الحملة التى شارك فيها غيره وتحتمل تفاصيلها التأجيل إلى وقتها المناسب.

ولكنى لم أعامل عبد الخالق بالمثل على العكس وافقت أن يكون مديرا لتحرير صوت الأمة وقت أن كنت رئيسا لتحريرها وإن لم يحتمل العمل معى طويلا.

وكان متوقعا أن تشتعل المعارك الصحفية الضارية بيننا وبين صحيفة الشعب وقت أن كان رئيس تحريرها عادل حسين الذى انتقل من التشدد الشيوعى إلى التطرف الإسلامى.

ولست مغرورا لو قلت: إن أرقام توزيع «روزاليوسف» التى اقتربت من 125 ألف نسخة وجرأتها فى اقتحام الممنوعات وبراعتها فى عرض ما تصل إليه من تحقيقات وحريتها فى تناول الموضوعات رغم وصفها بأنها مجلة حكومية وضع صحف المعارضة فى مأزق حرج لم تستطع النجاة منه وجاورها فى ذلك المأزق المجلات اللبنانية مثل الحوادث والصياد التى تراجع توزيعهما إلى حد التلاشى.

أثبتت تجربة «روزاليوسف» أن الملكية ليست قيدا على الحرية بل استطيع القول: إن الصحافة القومية لديها حرية حركة أكبر من الصحافة الحزبية المحكومة بتعليمات قادة الحزب ومصالحهم لو أحسنت الاستفادة منها.

وفى كثير من الأحيان نجحت السلطة فى تجنيد معارضين لصالحها مستغلة فسادهم والمثال الذى لا يقبل الجدل يجسده أيمن نور.

كان نور يؤمن بأنه لو انضم إلى السلطة فإنه سيجد نفسه فى طابور طويل أما إذا أصبح معارضا فإنه سيكون فى موقع متقدم يسهل على السلطة رؤيته فيه وما أن أصبح نائبا فى مجلس الشعب حتى أعد استجوابات بدت قاسية ولكنه كان يسلم نسخة منها للوزير المختص قبل أن يضعها فى سكرتارية المجلس وكسب من وراء ذلك الكثير عندما نفذ مصالح رجال أعمال كسبوا من ورائه أكثر مما قدموا إليه.

وفى معركتى مع ممدوح الليثى التى سأنشر تفاصيلها فيما بعد كتب نور مقالات نارية ضد صفوت الشريف ولكنه فجأة توقف عندما كلف الشريف فريدة عرمان والدة زوجته بقناة السياحة بعد أن سحبها منها.

وفى الوقت الذى كانت الصحافة المصرية مشغولة بالإجهاز على «روزاليوسف» جاء إلينا أشهر باحث فى التنظيمات الإسلامية المتشددة وهو جيل كيبل الذى عاش فى مكاتبنا أياما حاورناه فيها وساعدناه فى مادة كتابه الخامس الذى صدر فيما بعد تحت عنوان الجهاد وسبقه للنشر أربعة كتب لها قيمة أكاديمية مميزة وترجمت إلى غالبية لغات العالم: النبى والفرعون و ضواحى الإسلام و المثقفون والمحاربون فى الإسلام و يوم الله.

كان جيل قد عاش فى القاهرة ثلاث سنوات بعد اغتيال السادات لتحضير رسالة الدكتوراة عن الحركة الإسلامية فى مصر وانقطع عن زيارتها عشر سنوات تغيرت فيها البلاد كثيرا: زاد الحجاب وزاد العنف على حد قوله.

والملاحظة الأولى والأهم هنا أن الأجانب والأغراب هم الأكثر اهتماما بمشاكلنا والأكثر براعة فى تفسيرها وتفنيدها فنحن لا نغوص فى العمق كما يفعلون.

سألت جيل: كيف ترى الحركة الإسلامية فى مصر بعد طول غياب؟.

أجاب: أغلبها من عائلات تسكن على هوامش المدن.. ليسوا فلاحين.. ليسوا أثرياء.. ولكنهم على قدر وافر من التعليم أحيانا.. بل إن قيادتها درسوا الطب والهندسة والكمبيوتر ولفت ذلك انتباهى.. المفروض أن يقود هؤلاء المجتمع إلى المستقبل لا أن يستغلوا العلوم التى درسوها فى العودة إلى الماضى.. وهم يجدون أنفسهم فى تناقض بين التعليم والواقع.. بين المعمل والشارع.. وهو تناقض أوقعهم فى تناقض أكبر.. استعمال المنهج العلمى فى التفسير الدينى.. إن مؤسس تنظيم الجهاد محمد عبد السلام فرج مهندس ولكنه استخدم المنهج العلمى الذى تعلمه فى كلية الهندسة فى كتابه الفريضة الغائبة وهو منهج لا نجده بحكم طبيعة الأشياء فى الدراسات التى تخرج من الأزهر أو الدراسات الدينية عموما.

واتفقنا معا أن بيئة التعليم سببا مباشرا لاحتضان التطرف، لدينا فوضى فى التعليم الاساسى: مدارس حكومية ومدارس أجنبية ومعاهد أزهرية وكل منها له مناهجه وأسلوبه وأهدافه ورؤيته التى تتقاطع مع رؤى غيره وباختلاف الرؤى يكون الصراع والصدام.

ويتكرر الشىء نفسه فى الجامعات: هناك جامعات حكومية وجامعات أزهرية وجامعات أجنبية وجامعات خاصة ولا يجمعها إلا قيادة بيروقراطية حكومية ليس من حقها التدخل فيما تقدم من مناهج ودراسات.

ولكن الأخطر أن التقسيم الحاد فى الكليات بين كليات عملية وكليات إنسانية جعل الحقيقة نسبية تقبل الاختلاف فى الكليات الإنسانية مثل الآداب والحقوق والعلوم السياسية بينما بدت الحقيقة مطلقة لا تقبل الاختلاف فى الكليات العملية مثل الهندسة والطب والصيدلة التى تخرج فيها قادة الإخوان والتنظيمات المتشددة الأخرى.

فى الكليات العملية داخل الجامعات الغربية يدرس الطالب بعضا من العلوم الإنسانية تجعله يتقبل غيره بل تجعله متميزا عن أقرانه فالطبيب الشاعر يقدر ظروف المريض والمهندس الموهوب فى تنسيق الزهور يبنى مدنا مريحة تتجاوز برودة الحديد والأسمنت والزلط والبيطرى الذى يهوى الأدب يصعب عليه إصدر فتوى بقتل نجيب محفوظ بعد تكفيره.

واتفقنا على أن غياب الليبرالية بعد أن حل عبد الناصر الأحزاب السياسية عام 1953 وطارد التنظيمات الشيوعية حتى حلها جعل الصراع السياسى محصورا منذ أزمة الديمقراطية فى مارس عام 1954 بين مؤسسة عسكرية قوية وتنظيمات إسلامية تجد فى الظروف الاجتماعية الصعبة أعدادا يصعب إحصاؤها من المؤيدين لها.

ولايزال الصراع مستمرا.