وليد عوف يكتب: "الانتحار الحقيقي"

ركن القراء

وليد عوف
وليد عوف


ظاهرة الانتحار موجودة بنِسَب ودرجات متفاوتة في مختلف مناطق العالم وتتعدد أسبابها وتتباين من منطقة لأخرى فنجدها في الدول الغربية أكثر إرتباطاً بالتعلق الزائد بالماديات والإشباع المفرط للنزوات والرغبات وضعف القدرة على التأقلم مع تقلبات الحياة.. أو الملل الزائد من تكرار نمطها.. بينما نجد أسباباً مختلفة تماماً في دول شرق آسيا كثيراً ما ترتبط بإحساس الفرد بالذنب أو التقصير البالغ في حق الآخرين أو المجتمع بشكل لا يرضى فيه الإنسان عن نفسه ويعجز عن مواجهة الآخرين فيختار إنهاء حياته.. وبين هذا وذاك بالقطع أسباب ودوافع كثيرة بعضها شخصي وبعضها قد تكون له أسباب أخرى صحية كانت أو إجتماعية أو غيرها.

ومن واقع خبرتي في أقسام الطوارئ كطبيب ناشئ في مصر من عشرات السنين فإن الانتحار في مصر معظم حالاته هي " محاولات " فاشلة عن قصد نراها بشكل عام عند الشباب والمراهقين بالدرجة الأولى لأسباب عاطفية أو إحباطات شخصية أو خلافات عائلية.. فتتناول الفتاة جرعة غير قاتلة من الأدوية أو تجرح نفسها جرحاً سطحياً.. للتعبير عن إحباطها أو معاناتها.. ويتم ذلك في خصوصية المنازل عادة.. وتحرص الأسرة على سرعة التعامل مع الموقف في تكتم وإنكار أو تعتيم.. لأسباب قانونية واجتماعية معروفة ومفهومة.. والدوافع في معظم الحالات ترجع للإحباط واليأس الشخصي.

ولكننا بكل أسف بدأنا نشهد منذ أسابيع ظاهرة جديدة وغريبة علينا يجب أن نتأملها جميعاً وأدعو المختصين من مسؤولين وأطباء وخبراء علم النفس وعلم الاجتماع والقانونيين والمفكرين لتحليلها تحليلاً علمياً لفهم ومعالجة أسبابها والعمل على عدم تفاقمها وتسارع وتيرتها.. وبالطبع فإني أشير إلى حالات الانتحار المتكررة تحت عجلات المترو.

والملفت في هذه الحالات أنها حالات انتحار أكيد لا يحتمل الفشل.. وتتم في مكان عام مزدحم بالناس فلا يمكن أن يمر دون أن ينتشر خبره انتشاراً سريعاً وواسع النطاق.. كما أنها تتم بسلاح أداته وساحته.. أحد مرافق الدولة.. وتتم في وضح النهار بشكل لا يسمح للأهل أو المسؤولين بالإنكار أو الإخفاء.

وطبعاً لكل حالة خلفياتها ودوافعها.. وتبقى العناصر المشار إليها سابقاً ثابتة في كل الحالات.. وما يقلقني هو تسارع تواتر الحالات فـ لقد شهدنا أول حالتين في خلال ثلاثة أسابيع ثم عرفنا عن ثلاث أو أربع حالات أخرى على مدى حوالي عشرة أيام فقط.. بما يوحي أن المسألة قد تتحول بكل أسف لظاهرة.. أخشى ما أخشى أن نعتاد عليها.. ونتعايش معها.. دون فحص وتدقيق وتحليل.. ومعالجة فعالة وحقيقية.

وبالطبع هناك خلفيات شخصية وعائلية متعددة واردة في هذه الحالات ولكن أسلوب وطريقة وأماكن الانتحار توحي بشكل واضح.. بدرجة عالية من السخط والغضب تجاه المجتمع بأسره.. فالذي ينتحر بهذا الأسلوب ليس فقط الشخص المنتحر .. وإنما نقرأ فيه انتحار "المواطن" المحبط من حاضره واليائس من مستقبله.. والحانق على مجتمعه.

هذه الظاهرة التي أتمنى أن ندرسها بعمق وتأنٍ .. للحد من تكرارها وإحتوائها.. جديرة بكل اهتمام في رأيي الشخصي من مختلف أجهزة الدولة والمجتمع.. وكافة المؤسسات العلمية والسياسية والاجتماعية والتربوية والدينية.

انتحار المواطن المتكرر.. شرارة خطيرة قد لا يسلم المجتمع بأسره من شطط نيرانها.. اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد.