د. أماني ألبرت تكتب: صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ

مقالات الرأي



في سكون الليل وفي حدقة الظلام. إذ كان في الدير، أن أشعياء المقاري قام على أخيه أبيفانيوس وقتله. (كما اعترف في التحقيقات). حفظ أشعياء عن ظهر قلب منذ نعومة أظفاره قصة قتل قايين لأخيه هابيل التي تعلمها في مدارس الأحد. ولعله لما كبر قرأها عشرات بل مئات المرات وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ. فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: "لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟" فَقَالَ: مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ. (سفر التكوين4: 10).

قتل قايين أخيه هابيل بدم بارد عن تعمد وقصد، والسبب اختلاف طريقة تقديم كل منهما الذبائح لله. وما أغاظه وملأه قلبه بالحقد والكراهية والحسد هو أن الله تقبل قربان أخيه أما قربانه فلم يقبل. 

وعندما سأله الله أين هابيل أخوك كذب وتنصل من المسئولية. فقال له الله .. صوت الدم يصرخ إليّ من الأرض. وهذا ما يحدث عبر التاريخ. فدم المظلومين الأبرياء يصرخ بصوت عال.هذا الصوت قد لا يسمعه البشر ولكن الذي يسمعه هو الله "مجري العدل والقضاء لجميع المظلومين" (مزامير 103: 6). وبالمثل دم الأنبا أبيفانيوس يصرخ لله. 

الأنبا أبيفانيوس لم يكن محبًا للمناصب ولا للمال، كان يقدم تعاليم الإنجيل الصافية فإلتف حول تعليمه كثيرين يسمعونه بسرور وانفضوا من حول أخرين بثوا سموم الفرقة وخلت عظاتهم من تعاليم الإنجيل. فضحت مقاومته للخطية التقوى الزائفة. لم يقبل المساومة مع الخطأ. كان متضعًا معتدلاً يرفض تمجيد الأشخاص، الأمر الذي شب عليه كثيرون. دحض بتصرفاته البسيطة دعاية اسطورية أن الرهبنة هي طريق الكمال المسيحي الوحيد والطريق المؤدي للبر والخلاص. 

هذا البرئ الوديع المغدور الذي قاوم الشر أكثر من مرة وأنذر له. لم يرفض أن يعطي أشعياء المقاري فرصة جديدة للتوبة حينما طلب، وقبله بمنتهي التسامح والمحبة. 

جميعنا نتفق أن ضعفات أشخاص لا تعبر عن الكل، فالكيان نفسه نقي وقد أُختبر عبر القرون وهذا لا يهز كيان الرهبنة. ونحيي إصرار البابا إبلاغ النيابة والتحقيق فليس من صالح أحد التستر على أي خطأ وليس لدينا ما نخفيه.

نتفق معًا أن الحدث جاء صادم للجميع وبالأخص للمتدينين، الذي ذهب بهم إخلاصهم لوضع هالة قدسية حول رجال الدين، ونسوا أنهم بشر يمكن أن يخطئوا هم أيضًا. فبعد تسريب الخبر وقبل ذهابه للنيابة. أنكر ورفض كثيرين الخبر، وعلق البعض أيات جميلة تحمل معنى أننا كلنا خطاه فلا يجب أن نلومه. ودخل أخرون في سجال كلامي ربما فيه إساءة للمختلفين معهم في الرأي وكأنهم يقولون الراهب مقدس لا تتجرأوا وتتكلموا عليه هكذا!
ولكن ألم يقرأ هؤلاء أن "مُبَرِّئُ الْمُذْنِبَ وَمُذَنِّبُ الْبَرِيءَ كِلاَهُمَا مَكْرَهَةُ الرَّبِّ" (أمثال 17: 15). فإحاطة البشر بهالة قدسية جهالة. تمجيد المخلوق دون الخالق ما هو إلا استبدال حق الله بالكذب. و"هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَم!" (انجيل لوقا 20: 46).

الحدث الصادم أن يقتل راهب! والأبشع أن يقتل بهذه الطريقة الدموية. ولكن ألا يعطينا هذا الفرصة لنراجع أنفسنا بكسر التابوهات التي تأصلت عبر سنوات طويلة؟ فالراهب إنسان ومواجهته بأخطائه ليست من المحرمات.

الحقيقة كلنا في الموازين إلى فوق، ولا يوجد أحد معصوم من الخطأ. نعم، لنعطي للتوبة مكان ولكن دون الإخلال بفكرة تنفيذ القانون وإقامة دولة العدل وتحقيق العقوبة الرادعة لمن يظن أنه أخذ مكانة أعلى من أي شخص. أيا كانت مرتبته أو منصبه. 

ألم يقل الإنجيل "خَطَايَا بَعْضِ النَّاسِ وَاضِحَةٌ تَتَقَدَّمُ إِلَى الْقَضَاءِ" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس 5: 24) لقد سمح الله أن تكون هذه الخطية واضحة، ليحذرنا من المبالغات في تمجيد البشر. من لدى الله أفضل، راهب قاتل أم خاطئ تائب؟ وما جدوى أن يظهر إنسان بصورة مثاليةتحيط به هالة قدسية وهو قاتل نفس؟ ما الفائدة من أن يتمسح شخص في الدين وهو ممتليء بالكراهية والحسد والغيظ؟ الله لا يرضى الذبائح والتقدمات الظاهرية لأنه ينظر ما في القلب. فكل شيء عريان ومكشوف أمامه. بل أن من يمثل القداسة خطيته أعظم.
"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ.هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَلكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِل مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْمًا" (انجيل متى 23: 27-28).

قتل الأنبا أبيفانيوس بهذه البشاعة والجرأة، يقودنا لسؤال جوهري هل هناك من دعم هذا الراهب ليصل على ما هو عليه؟ ما أو من الذي أعطى القاتل هذه القوة والجرأة لتنفيذ مثل هذه الجريمة؟ وبأي مبرر؟ من أو ما الذي شجعه على شق عصا الطاعة عن رئيس ديره؟ وهل كان بهذا يحمي الإيمان أم يفسده؟ قال البابا أن حادث الأنبا ابيفانيوس هو جريمة والجريمة لا تخضع للخواطر، ولعل الخواطر السابقة هي ما أوصلتنا إلى ما نحن عليه.
وأقصد تعطيل تنفيذ قرار شلحه السابق.

الإنجيل يقول "مَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ" (إنجيل القديس لوقا 11: 23) وكذلك من يهيج شعب الأقباط للإساءة لرأس الكنيسة، ومن يظن أنه يحمي الإيمان.فايمان الكنيسة محمي بصاحب الكنيسة أي المسيح. الإيمان ليس سلعة تُشتري أو تُخزّن.والدين ليس تجارة، الإنجيل يعلمنا أن "التقوى مع القناعة هي تجارة عظيمة" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس 6:6) التقوى بمعنى عدم استغلال الروحيات للخواطر أو المصالح الشخصية. والقناعة بمعنى الاكتفاء وليس السعي وراء المزيد من الشهرة والمناصب والسلطة ومجد الناس والمكاسب.

دم البار الأنبا ابيفانيوس يصرخ إلى الله القاضي الديان، يصرخ ضد الكراهية والتحزب والانقسام، ضد التناحر الفكري لصالح أشخاص، ضد تزييف الحق، ضد البعد عن تعاليم السيد المسيح، المحبة والطهارة والأمانة.