عبدالحفيظ سعد يكتب: عاش متى المسكين وتلاميذه

مقالات الرأي



لقّبَ بـ«المسكين»، وعاش بعيداً عن كل شهرة، زاهدا فى كل سلطة، تاركا الدنيا لطلابها.. عاش كأنه ميت! لكن عندما مات عاش.. بكلماته وأفكاره وتلاميذه ومدرسته..

الأب متى المسكين، أيقونة المسيحية فى القرن العشرين، وربما لقرون مقبلة.. لذلك تعجز الكلمات أن تلخص ما قام به هذا الرجل، سواء لعقيدته أو لوطنه، مع انتصاره الدائم للحب والخير والتسامح، والتوحد لا الفرقة كرسالة يفرضها لكل دين، وعقيدة منزلة من السماء.

فى حياة الأب متى، اختار الطريق الصعب، وكان يرفض السهل إذا تعارض مع أفكاره، هو ابن لعائلة ثرية فى دمنهور شمال الدلتا، كان متفوقا دراسيا، حصل على كلية الصيدلة، كانت الحياة ممهدة له أن يعيش فى نعيمها، لكنه أخذ مسلكا آخر، تنازل عن تركته وصيدليته للفقراء.. ودخل الرهبنة، واختار ديرا فقيرا ومعزولا عن العمران فى صحراء الصعيد.

خطوات الأب متى فى الرهبنة، مهدت الطريق لرهبان جدد من الطلبة الجامعيين أن يسلكوا طريقه، بعد أن وجدوا لهم أبا روحيا، ورجل دين مختلفا، يريد التجديد، ويرى الدين لخدمة البشر، كرسالة منزلة من خالقهم.

ولكنه اصطدم لمرات عديدة، مثل أى مجدد تلاحقه أفكار الجمود، تعرض الأب متى لخلافات عديدة مع باباوات الكنيسة بداية من الأب يوساب الذى سعى فى البداية لأن يقربه منه، وعينه وكيلا له بالإسكندرية، إلا أنه لم يستمر كثيرا فى منصبه الكنسى، وفضل العودة لحياة الرهبنة والزهد، وعاد لدير الأنبا صموئيل بالصعيد وصحب معه تلاميذه، ورغم ذلك رشح للمرة الأولى كبابا للأرثوذكس.

وبعد خلافات مع البابا كيرلس السادس، نتيجة وشايات، طلب من الأب متى مغادرة دير الأنبا صموئيل، إلى دير السريان، لكنه اختار مع تلاميذه أن يعيش فى وادى الريان بصحراء الفيوم، وعاشوا فى كهوف حفروها بأيديهم للتفرغ لحياة الزهد حتى طلب منه البابا كيرلس أن يعمر دير الأنبا مقار، والذى حوله بعد سنوات قليلة إلى أهم المناطق الزراعية فى مصر بعد أن طور طريقة الزراعة الصحراوية، وهى الفكرة التى دفعت الكثيرين أن يتجمعوا حول الدير فى طريق الإسكندرية ويقوموا باستصلاح الصحراء هناك.

ومع البابا شنودة الذى كان يعد تلميذا للأب متى، حدثت خلافات عديدة خاصة مع أزمة البابا مع السادات، وسعى الأب متى فيها يهدئ التصاعد بين الكنيسة والسادات، لكن البابا شنودة لم يصف للأب متى واعتبر أنه انحاز ضده فى خلافه مع السادات، واستمر الخصام بينهما، وهو ما استغله بعض المتعصبين ضد فكر الأب متى فى العمل على زيادة الفجوة بين الأب متى والبابا شنودة، لدرجة وصلت لحد منع بعض مؤلفاته فى الكنائس، والتعرض له، وهو ما استمر حتى وفاته فى يونيو 2006.

لكن استمرت مدرسة الأب متى، ولم تمنعها يد التعصب، خاصة مع صعود البابا تواضروس لكرسى الباباوية، بل إن أفكاره تجاوزت الكنيسة الأرثوذكسية، للتأثير فى الكنيسة الكاثوليكية ذاتها بقيادة البابا فرانسيس والذى كان يردد صلاة الأب متى فى خطبه، وهو ما ظهر فى خطبة شهيرة له قبل عيد الميلاد 2016، بمناسبة التهنئة بأعياد الميلاد قائلا: «أختم كلمتى هذه بصلاة تفوه بها الأب متى المسكين وهو راهب مصرى معاصر».

وربما روح التسامح والتقارب لدى الأب متى، هى التى دفعت كلا من البابا تواضروس والبابا فرانسيس، أن يوقعا اتفاق توحيد المعمودية أثناء زيارة بابا الفاتيكان لمصر العام الماضى، وهو الاتفاق الذى يعد تتويجا لأفكار طالما دافع عنها الأب متى.

لكن هذا الاتفاق تم تعطيله لمعارضة المتعصبين فى الكنيسة له، وهو ما دفع البابا تواضروس أن يعين الأنبا إبيفانيوس أسقف دير الأنبا مقار وتلميذ الأب متى، ممثلا عن الكنيسة فى مؤتمر حوار الأديان بإيطاليا، واختياره مراقبًا بلجنة الحوار اللاهوتى، خاصة بعد أن قدم الأنبا إيبفانيوس دراسة يذكر فيها أسباب قبوله لمعمودية الكاثوليك، لتأتى يد غادرة لتقتل جسد الراهب، لكنهم لن يقتلوا فكره، مثلما عاش الأب متى بعد رحيله.