قبيل نهائي المونديال: منتخب كرواتيا تحت مجهر المثقفين

الفجر الفني



بقدر ما يشكل صعود منتخب كرواتيا إلى نهائي مونديال 2018 الحالي في روسيا وتأهبه لمنافسة المنتخب الفرنسي غدا الأحد على لقب بطولة كأس العالم لكرة القدم مفاجآة كروية ومؤشرا قويا لما يسمى "بالنظام الكروي العالمي الجديد" فإن هذا الصعود الكروي المثير أثار تعليقات مثقفين حول العالم من بينهم بعض المثقفين العرب ناهيك عن المثقفين الكروات. 

ومع تداخل السياقات الكروية والثقافية وتفاعلها تواصل إصدارات ودوريات ثقافية رفيعة المستوى في الغرب نشر طروحات متعددة حول مونديال 2018 في روسيا الذي يختتم غدا الأحد، فيما تشكل كرواتيا وهي الدولة الصغيرة في عدد سكانها والتي كانت جزءا من "يوجوسلافيا السابقة" مفاجأة المونديال لتكون تحت مجهر عشاق الساحرة المستديرة حول العالم ومن بينهم الكثير من المثقفين.

ولاريب أن منتخب كرواتيا الذي ينافس المنتخب الفرنسي على لقب بطولة كأس العالم لكرة القدم يشكل النموذج الدال لما يسمى "بالنظام الكروي العالمي الجديد" الذي تبدت ملامحه في مونديال 2018 بروسيا ليحل محل "النظام الكروي العالمي القديم" والذي كان يخضع لهيمنة قوى كروية مثل ألمانيا والبرازيل والأرجنتين وإيطاليا واسبانيا.

فصعود منتخب كرواتيا لنهائي المونديال مقابل خروج قوى كروية من الأدوار الأولى لهذا المونديال مثل ألمانيا والبرازيل والأرجنتين وهي التي كانت تهيمن على عالم الساحرة المستديرة من قبل دفع الكثير من النقاد والمحللين للحديث عن "ولادة نظام كروي عالمي جديد في مونديال روسيا".

ومن الدال في هذا المشهد الذي تتداخل فيه سياقات ثقافية وكروية أن يتفاعل مثقفون عرب مع الصعود الكروي الكرواتي وأن يتحدث بعضهم مثل الكاتب والمعلق المصري الدكتور أسامة الغزالي حرب عن الزعيم اليوجوسلافي الراحل جوزيف بروز تيتو وهو كرواتي الأصل وكان أحد قادة حركة عدم الانحياز جنبا إلى جنب مع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والزعيم الهندي جواهر لال نهرو.

وإذا كان الدكتور أسامة الغزالي حرب الكاتب والمعلق في جريدة الأهرام يتحدث بحماس عما وصفه "بالمعجزة الكروية الكرواتية" وكرواتيا التي لايتجاوز عدد سكانها 4,3 مليون نسمة ومساحتها البالغة نحو 57 ألف كيلو متر مربع فإن من الطبيعي أن يتفاعل المثقفون الكروات بقوة مع هذا الصعود المدهش لبلادهم على مسرح كرة القدم العالمية ومن بينهم إيفان سرشين الذي يقيم في العاصمة الكرواتية زغرب وهو كاتب وقاص ومترجم وصدرت له مجموعة قصصية قصيرة، فيما ترجم عدة قصص من الإنجليزية للكرواتية.

ولئن استعاد مثقفون عرب زمن الزعيم اليوجوسلافي الراحل جوزيف بروز تيتو الذي قضى في الرابع من مايو 1980 لتتفكك يوجوسلافيا بعد نحو عقد واحد من رحيله وتشهد صراعات دموية وتظهر على إطلالها جمهوريات جديدة ومستقلة هي صربيا والجبل الأسود وسلوفينيا ومقدونيا والبوسنة والهرسك وكرواتيا فإن الأديب الكرواتي إيفان سرشين يرى أن مباريات منتخب كرواتيا في بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2018 قد أظهرت مخبوء المشاعر الجامعة حتى الآن بين كل الذين انتموا من قبل ليوجوسلافيا ككيان واحد.

ويقول هذا الأديب الكرواتي أن صيف عام 1990 كان بالنسبة لهؤلاء الذين عاشوا فيما كان يعرف حينئذ بيوجوسلافيا أقرب ما يكون لصيف 1939 في أوروبا :صيف ساخن دفع الكثيرين إلى الشواطيء، بينما سعى أولئك الذين لم يتيسر لهم التوجه لشاطيء بحر أو بحيرة للبحث عن ملاذ في ظل شجرة أو حتى مبنى شاهق.
وأيامئذ لم يتوقع أحد هذا الانهيار المفاجيء لتلك الدولة البلقانية والتفكك السريع ليوجوسلافيا كما يقول إيفان سرشين الذي كان حينئذ صبيا في 11 من عمره وينهمك في لعب كرة القدم بالشارع الذي يضم بيته في مدينته زغرب وهو شارع تخف به حركة المرور للسيارات مثل غيره من شوارع المدينة في أشهر الصيف.

في هاتيك الأيام كان الصبي إيفان سرشين يهوى اللعب في الشارع كحارس لمرمى فريقه بينما كان المرمى ذاته هو باب منزل من المنازل المطلة على الشارع وكان الصبي يتخيل نفسه "توميسلاف ايفكوفيتش" حارس المرمى الشهير لمنتخب يوجوسلافيا وفريق نادي "دينامو زغرب" في ثمانينيات القرن العشرين.

كان اللاعب الكرواتي توميسلاف ايفكوفيتش يسكن في مخيلة الصبي إيفان سرشين وهو يتقافز ليمسك بالكرة الجلدية القديمة التي تنسلت واهترأت من الأسفلت الذي نال أيضا من ركبتي الصبي ايفان ومرفقيه وهو يحرس مرمى فريقه ويذود عن عرينه ويحاول جاهدا صد ضربات الفريق المنافس ويصل جهده للذروة عندما يتصدى لضربة جزاء أو "فاول" قريب من المرمى.

في ذاك الصيف لعام 1990 كما يستعيد الكاتب إيفان سرشين في طرح "بدورية نيويورك ريفيو" ذات المستوى الثقافي الرفيع هزم المنتخب اليوجوسلافي في مواجهة منتخب الأرجنتين بربع النهائي لبطولة كأس العالم لكرة القدم في إيطاليا، غير أن الأرجنتينيين هزموا بدورهم في نهائي البطولة أمام المنتخب الألماني المخيف بقيادة رودي فولر ويورجن كلينسمان ولوثر ماتيوس.

ورغم أن منتخب الأرجنتين فاز على المنتخب اليوجوسلافي في ربع النهائي لمونديال إيطاليا بضربات الجزاء الترجيحية وبفارق هدف واحد فإن الأديب الكرواتي إيفان سرشين يشعر بالفخر حيال أداء منتخبه الوطني حينئذ، مشيرا إلى أنه بعد ان أضاع الصربي دراجان ستوكوفيتش والذي يصفه بلاعب خط الوسط العظيم لمنتخب يوجوسلافيا ضربة جزاء تمكن حارس المرمى اليوجوسلافي توميسلاف ايفكوفيتش من صد ركلة جزاء سددها اسطورة الكرة الأرجنتينية مارادونا ليتحول الكرواتي ايفكوفيتش إلى "بطل الشارع اليوجوسلافي".

فحتى وأن كانت هذه المباراة قد انتهت بفوز الأرجنتينيين على اليوجوسلاف في ضربات الجزاء الترجيحية (3-2) فإن تمكن حارس المرمى توميسلاف ايفكوفيتش من التصدي لضربة جزاء سددها أحد أعظم لاعبي كرة القدم في التاريخ أي دييجو مارادونا كان كفيلا في نظر إيفان سرشين بإعلاء اسم بلاده على المستطيل الأخضر ومن ثم فقد تحول إلى "بطل" سواء في كرواتيا أو غيرها من الجمهوريات التي كانت تشكل ماكان يعرف حينئذ بيوجوسلافيا.

وهاهو الزمن يدور دورته وتمر الأيام ويأتي مونديال 2018 في روسيا فيجد إيفان سرشين نفسه جالسا على أريكة في بيته بزغرب مع ابنه الذي يناهز عمره عندما كان صبيا في مونديال 1990 بإيطاليا لمشاهدة مباراة كرواتيا والأرجنتين التي سحق فيها الكروات "منتخب راقصي التانجو" بثلاثية نظيفة ليتأهلوا لدور ال16 بالبطولة الكروية العالمية.

ولم يكن بمقدور أديب كرواتي مثل إيفان سرشين وهو يشهد هذه المباراة التي جاءت بعد نحو 28 عاما من لقاء المنتخبين اليوجوسلافي والأرجنتيني في مونديال 1990 بإيطاليا، إلا أن يستعيد ذكريات زمن مضى ولن يعود عندما كان هناك كيان اسمه "يوجوسلافيا" وعندما كان يعيش مايسميه "بزمن البراءة".

كل ذلك انتهى كما يقول إيفان سرشين وتبدد الكيان الجامع مابين اليوجوسلاف ليتناثر بين عدة جمهوريات مستقلة من بينها كرواتيا وحتى مارادونا ودع المستطيل الأخضر منذ سنوات طويلة وأن بقى كضيف صاحب حضور بارز في البطولات الكروية ومن بينها العرس الكروي العالمي الذي يختتم غدا في روسيا.

ويعترف إيفان سرشين بأنه شهد مباراة كرواتيا مع الأرجنتين مع ابنه الصبي وكأنه يعيش حلما فهو لايصدق أن يفعل منتخبه الوطني مافعله براقصي التانجو الأرجنتينيين ومن بينهم اللاعب الأشهر ليونيل ميسي وأن يلحقوا بهم هذه الهزيمة النكراء بثلاثة أهداف بلا رد أرجنتيني !.

غير أن هذا الأديب الكرواتي حاول مع الفوز الكبير لمنتخبه أن يمنح تفسيرا عقلانيا لهذا الانتصار المدوي على منتخب الأرجنتين ثم يواصل مسيرته المظفرة حتى نهائي مونديال 2018 ليقول "ولم لا ومنتخبنا فريق رائع يمتلك عددا من أفضل اللاعبين في أوروبا وهاهو يصل لنهائي المونديال"؟!.

وبالنسبة له فإن الفوز الكبير لمنتخب كرواتيا على الأرجنتينيين بثلاثية نظيفة يشكل بداية اقتناعه بأن كرواتيا بمقدورها أن تكتب تاريخا جديدا للساحرة المستديرة وأن تكون مرشحة بجدارة للفوز ببطولة كأس العالم، فيما يكتب كلمات أقرب للغزل وهو يتحدث عن اللاعبين الكروات أصحاب الأهداف الثلاثة في مرمى الأرجنتين: انتي ريبيتش ولوكا مودريتش وايفان راكيتيتش.

ومع تسليمه بأن لاعبي منتخبه الكرواتي قد لايعلمون شيئا عن أفكار فلاسفة مثل الفرنسيين جيل دولوز وفيليكس جوتاري إلا أنهم في اعتقاده يجسدون أفكارهما عن التأثير الجوهري للصراعات والحروب في السلوك الإنساني حيث يشكل ماحدث من حروب وصراعات أثناء تفكك الكيان اليوجوسلافي في الشطر الأول من تسعينيات القرن العشرين بصمات غائرة في الخارطة الإنسانية لكل من عاش هذه الأحداث الجسام حتى لو كان حينئذ صبيا صغيرا أو سمع عنها من الجيل الأكبر سنا.

إنها التجربة الإنسانية الأليمة عندما تفعل الحروب أفاعيلها في البشر وتترك دروسها المستفادة حول إدارة الصراعات، فيما يلفت الأديب الكرواتي إيفان سرشين إلى أن بعض لاعبي كرة القدم في جمهوريات وأقاليم يوجوسلافيا السابقة وخاصة في البوسنة والهرسك وكوسوفا عانوا وهم أطفال صغار من آثار تلك التجربة الأليمة واضطروا للنزوح بعيدا عن ديارهم وملاعب الصبا.

وهناك من اللاعبين في المنتخب الكرواتي من عانى من تداعيات صراعات وحروب مرحلة انهيار يوجوسلافيا ومن بينهم - كما يشير إيفان سرشين - اللاعب الشهير ونجم خط الوسط في فريق ريال مدريد الأسباني لوكا مودريتش الذي اعتبر أن عدم احترام الإنجليز للمنتخب الكرواتي شكل حافزا كبيرا لفريقه للفوز على منتخب إنجلترا والصعود لنهائي المونديال الحالي لمنافسة الديوك الفرنسية على لقب بطولة كأس العالم لكرة القدم.
وأعاد الأديب الكرواتي إيفان سرشين للأذهان أن لوكا مودريتش اضطر للنزوح مع الكبار من أفراد عائلته والخروج من مسقط الرأس في "دالماتيا" والفرار من القتال الذي احتدم عام 1991 إلى مدينة زادار الساحلية المطلة على البحر الادرياتيكي.

أما اللاعب ديجان لوفرين مدافع فريق ليفربول الإنجليزي الشهير فقد ولد في بلدة زينيتسا البوسنية عام 1989، غير أن عائلته اضطرت تحت وطأة الحرب للفرار إلى بافاريا في ألمانيا والاستقرار هناك لمدة 7 سنوات حيث عادت العائلة للعيش في كرواتيا.

وأشار إيفان سرشين أيضا لحالة اللاعب الكرواتي فيدران كورلوكا الذي يلعب حاليا مع فريق نادي لوكوموتيف موسكو الروسي وكان يعيش سنوات طفولته الأولى مع عائلته في بلدة "مودران" البوسنية، غير أن العائلة اضطرت مع احتدام القتال وتصاعد الهجمات الصربية للانتقال عام 1992 إلى العاصمة الكرواتية زغرب.

وهكذا فالحياة بالنسبة لهؤلاء اللاعبين كانت منذ البداية حافلة بالصعاب والتحديات وهي مسألة انعكست على أدائهم الكروي والتحلي بقوة الإرادة في منازلاتهم للمنافسين على المستطيل الأخضر كما يلاحظ الأديب الكرواتي إيفان سرشين .

وواقع الحال أن اللاعب الكرواتي ديجان لوفرين قد أشار للمعنى ذاته في سياق مقابلة صحفية مؤخرا عندما تحدث عن أهمية منح فرص عادلة في الحياة لهؤلاء اللاجئين من ضحايا الحروب ولم يكونوا أبدا سببا في إشعال نيران تلك الحروب.

وهاهو الأديب الكرواتي إيفان سرشين يوميء لمشاعر مازالت تجمع بين كل الذين ضمهم من قبل كيان واحد اسمه يوجوسلافيا وهو يستعيد وقائع زيارة قام بها مؤخرا للعاصمة البوسنية سراييفو لحضور احتفالية ثقافية للكاتب البوسني الكسندر هيمون الذي اضطر للعيش في الولايات المتحدة مع اندلاع حرب البوسنة.

فالكل في هذه الاحتفالية الثقافية يشعر بالسعادة لانتصارات منتخب كرواتيا ويتابع باهتمام بالغ مبارياته الحالية في المونديال والكل يشجع كرواتيا ويتمنى لو توجت ببطولة كأس العالم لكرة القدم..فهل يحقق منتخب كرواتيا أماني كل المثقفين الذين كانوا يوما ما مواطنين في دولة واحدة اسمها يوجوسلافيا ولم تحرق الحروب والصراعات التي أفضت لانهيار هذا الكيان مشاعرهم الجامعة ؟!.

وإذا كانت إجابة هذا السؤال ستكتب غدا على المستطيل الأخضر لملعب "لوجنيكي" في موسكو فالمؤكد أن الساحرة المستديرة التي توحد اليوم مشاعر من كانوا يتحاربون ويتباغضون بالأمس على إطلال يوجوسلافيا تبرهن من جديد على حقيقتها كقوة إيجابية قادرة على تضميد جراح الماضي وإسقاط حواجز الكراهية.