د. أماني ألبرت تكتب: الإعلام والقيم

مقالات الرأي



رايحة فين يا باشا، يا سلام يا سلام. يا صباح الخير. ردي يا باشا. هو حرام لما اكلمك؟ انت الظاهر عليكي خارجة زعلانة‘‘ في عام 1940 حكمت محكمة النقض المصرية على صاحب هذه المعاكسة بالسجن لأنه خدش حياء إمرأة وجرح كرامتها بسبب هذه الألفاظ.

واليوم لو نفذت المحكمة نفس القرار مع فروق الألفاظ،هل ستكفي السجون؟ فنحن للأسف نواجه فيضانمن ضوضاء القبح اللفظي ليس في الشارع فقط امتد ليتم تداولهبتلقائية داخل وسائل الإعلام.

وسائل الإعلام التي من المنوط بها المشاركة في التنشئة الإجتماعية مع المدرسة والأسرة، والمنوط بها تعليم الفرد القيم ونقلها عبر الاجيال، ونقل تراث المجتمع من جيل إلى جيل. وسائل الإعلام التي من المفترض أن تنشر قيم إيجابية جديدة وتوثق لنماذج ناجحة يتبعها الشباب. وسائل الإعلام للأسف فشلت في تقديم هذه النماذج.ورسخت لقيم مرتبطة بالفردية والاستقلالية والمادية والاستهلاك. 

ونظرًا لقدرتها الهائلة على التأثير، عملت على تعميم صور ونماذج غريبة على مجتمعنا. فأبرزت الصوت المرتفع والسباب في برامج التوك شو، وخلقت تعاطف مع البلطجي بطل الدراما، وعممت لثقافة الأسلحة البيضاء والسموم البيضاء وثقافة الموسيقى الصاخبة والكلمات المبتذلة والألحان الغريبة.

ونظرًا لتكرار العرض، وكثافة مشاهدة الجمهور يحدث ما يسمى بالغرس الثقافي، إذ تغرس وسائل الإعلام على جرعات داخل الأفراد قيم وعادات تقدمها عبر شاشاتها. فينصب في وعاء الرموز والصور التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع مضامين شائكة وغريبة تم فيها تعميم الخطأ والنماذج السيئة والألفاظ القبيحة. ومع كثرة التعرض لوسائل الإعلام يتحول الواقع الصورى الذي يراه الأفراد في الإعلام إلى قناعة بأنه هو الواقع الحقيقي أو الذي يجب أن يكون. فالتكرار يؤثر على الإدراك ويكرسل صور ذهنية ثابتة. 

والتركيز على الصور السلبية يفسد مجتمع بكاملة، فقد أظهرت الاحصائيات أن نسبة كبيرة من الجرائم يتم ارتكابها بعد التعرض بكثرة لمضامين عنيفة وعدوانية. 

وبدلاً من أن يتم التركيز على النماذج الناجحة، أو تلك التي تخطت الصعاب وواجهت التحديات يتم التركيز على نماذج لا تعترف بالقانون بل تأخذ حقوقها بيدها، تفتخر بفظاظتها وتحديها للمنظومة الاجتماعية، تجرح مسامعنا بأردءأ الألفاظ وكأنه أمر عادي.

 وغاب دور القدوة من الأدباء والفنانين والعلماء لأن وسائل الإعلام لم تعد تركز علي رسالتهم السامية واقتصر دورها في التركيز على نماذج الفن والرياضة فقط. واصبح اهتمام الشباب الأساسي هو كيف يقلد البطل في طريقة لبسه ومظهر شعره واسلوب حياته وكذلك الألفاظ التي يرددها. 

لم تعد وسائل الإعلام تُصدر  في العموم صورًا جميلة ونماذج راقية كما كان. وللأسف لم تعد مدققة في نوعية النماذج التي تصدرها كقدوة لجمهورها. وبدعوى التنوع في تقديم النماذج ضخمت وسائل الإعلام والدراما من نماذج كالبلطجي والمجرم لتفرض علينا وجودة.

تحتاج وسائل الإعلام والدراما أن تراجع النماذج المقدمة بها، وتعمل على تنقية هذه النماذج. لأن الأشخاص في العموم يتقمصون ما يشاهدونه.

وبعد ما يقرب من 80 عام على الحكم القضائي، لو عاد القاضي الجليل مصطفي محمد باشا رئيس المحكمة الذي حكم بالسجن على الشخص صاحب المعاكسة، لو عاد لعالمنا لأصابة الذهول ليس فقط مما يتردد في الشارع المصري بل مما يقال على الملأ والعلن في وسائل الإعلام. تُرى ماذا سيكون حكمه على ما يسمعه ويراه على الملأ كإفساد للذوق العام؟.