"غلبان بيأكل غلابة".. حكاية خمسيني وهب كل ما يملك لموائد زوار "حبيب النبي"

تقارير وحوارات



 على أحد أطراف ساحة مسجد الحسين، تكدس أغلب زوار المنطقة أمام بقعة صغيرة، حيث سارع الجميع للحاق بالجلوس أمام موائد خشبية مستطيلة، ليتحول الزحام الشديد إلى ساتر يخفي السبب وراء هذا التجمع قبل بضع دقائق من رفع أذان المغرب، فلا يتضح سوى صوت إذاعة القرآن الكريم الصداح، والذي ينبع من راديو صغير يغرد بالابتهالات الدينية والشعائر التي تمهد لاقتراب موعد الإفطار، ليختلط معه صوت أجش من الصعب تمييز مصدره إلا بالاقتراب خطوات قليلة نحوه، لإدراك إنه رجل مسن ينادي بالخير، داعيًا المارة لمشاركة أسرته تناول الطعام.

 

"غلبان بيأكل غلابة"، يردد "الحافي" الرجل الذي تجاوز الخمسون عامًا، هذه العبارة باستمرار، حيث اتضح أنه صاحب الصوت الغليظ الذي جلس بالقرب من زوجته التي تحضر الطعام الساخن وتوزعه على أطباق صغيرة إلى جانب أكواب العصير، ليعلن رغبته في احتشاد هذه الموائد البسيطة بأكبر قدر من زوار "حفيد النبي" ليجمع أكبر قدر من الأرباح والتي تتمثل بالنسبة له في "الثواب".

 

يكمن سر هذه العبارة التي يرفع الخمسيني درجة صوته بها، في أنه يحصد الرزق من عمل بسيط -رفض التعريف عنه- وبالرغم من ذلك يجني أرباح كثيرة دون أن يعلم مصدرها "رزق من ربنا بييجي من حيث لا أحتسب"، وهو ما دفعه لاقتطاع جزء من هذا الرزق لتخصيص شقة في منطقة الحسين، تقضي أسرته شهر رمضان بها، لإعداد موائد الرحمن التي يتشاركون بركة الشهر فيها مع البسطاء، فيندسون بينهم على الموائد، ويأكلون نفس طعامهم دون أن يمنحوهم شعورًا بالتفرقة.

 

اعتاد "الحافي" منذ أكثر من عشرين عامًا، أن يتناول الإفطار مع أسرته بين المحتاجين في ساحة مسجد الحسين، حيث يعتقد أن تواجده في هذه المنطقة على وجه الخصوص هي رسالة خير من الله إلى قاصدي "حبيب الرسول"، فيعتبر هذه البقعة الطاهرة منزله طوال الشهر الفضيل :"الرسول كان بيحبهم وقال أحب من يحبهم فكان لازم أكون أول واحد يطمع في أجر ربنا الكبير ورضا النبي عليا".

 

وبهمة ونشاط، يحرص المسن على مساعدة زوجته وابنته الصغرى في تحضير كميات الطعام منذ بزوغ الشمس، حيث اقتطعوا من راحتهم وقللوا ساعات نومهم التي لاتتجاوز الساعتين أو الثلاث، ليتمكنوا من اللحاق بتجهيز الموائد والعصائر وما لذ وطاب من أنواع الخضار واللحوم، ومن ثم يقدمون الصحون على صواني كبيرة، ليعلم المارة أن المائدة متاحة للجميع بلا مقابل :"مبحسبهاش قد إيه هييجي ومين هياكل لأني عارف إن ربنا مبيردش غلبان وكله بيكفي وبيفيض ساعات بإذن الله".

 

لا يعبأ الرجل ذو الثمانية وخمسون عامًا، بما يتبقى له من رزق قليل مع نهاية الشهر، خاصةً مع توقفه عن العمل هذه الفترة للتفرغ إلى الموائد، حيث يعلم جيدًا مثل كل عام أن نهاية رمضان تجلب معها أرباح ورزق كثيف لايتوقعه، وهو ما جعله على قناعة تامة أن تجارته رابحة، فما يهبه الله له مقابل صنيعه في شهر الخير أكثر مما يحصده من عمله طوال العام.