عادل حمودة يكتب: قصة بطل من نوع خاص جدا لن يتكرر

مقالات الرأي



المندوه أكثر إثارة من رحيم وطايع وأيوب ونسر الصعيد معا ولكن كتّاب السيناريو مصابون بـ«حول» درامى مزمن

6 أشهر خلف خطوط العدو لرصد تحركاته العسكرية فى حرب أكتوبر بكسرة خبز وشربة ماء ومعجزات من السماء

منذ أن احتلت إسرائيل سيناء أصبحنا ننام على جرح واحد ونصحو على حزن واحد وأصبح الحلم الشخصى ترفا لو لم يصب فى حلم استردادها.

لم يعد أحد فى مصر ينفرد بفرحه أو ألمه أو ينفرد بحبه أو كرهه أو حتى ينفرد بحياته أو موته.

على اختلافنا سياسيا ونفسيا وطبقيا اجتمعنا على هدف واحد لا شريك له.. تحرير سيناء.. ونزع سيف الهزيمة الذى اخترق القلب واستقر فيه.

كان جيلنا تحت العشرين عندما وجد وطنه فى منطقة انعدام الوزن ورغم عدم مسئوليته عما حدث فإنه لم يتردد فى أن يقاتل التنين ويسترد منه ما خطف وسرق واغتصب.

واحد من ذلك الجيل هو أسامة المندوه الأسطورة التى تجاهلتها الدراما السينمائية والتليفزيونية المنشغلة بالتلفيق لا بالتأليف إلا قليلا.

دخل المندوه الكلية الحربية عام 1965 ليتخرج فيها قبل امتحان السنة النهائية فقد كان على دفعته المشاركة فى الدفاع عن القاهرة خشية أن تحتلها إسرائيل بعد احتلالها سيناء ولم تمر سوى ستة شهور حتى وجد نفسه ضابطا فى كتيبة استطلاع الفرقة الرابعة المدرعة على جبهة القتال خلال حرب الاستنزاف وبتسلله خلال تلك الفترة إلى الأرض المحتلة أربع مرات تأكدت موهبته فى جمع المعلومات الخطرة والخفية، مما سهل اختياره للخدمة فى المخابرات الحربية والعامة فيما بعد تمهيدا لعمله الدبلوماسى فى إسرائيل نفسها وقت أن كان السفير هناك محمد بسيونى.

وبحسه الدرامى يفتتح مذكراته التى نشرها بعنوان «خلف خطوط العدو» بمشهد يجد نفسه فيه وجها لوجه أمام ضابط إسرائيلى من الطائفة الدرزية كان عليه البحث عنه والقبض عليه خلال مهمة الاستطلاع التى كلف بها فى وسط سيناء منذ اليوم الأول لحرب أكتوبر.

حدث ذلك فى سبتمبر 1989 على جبل الكرمل تلبية لدعوة غداء من وزير الخارجية ديفيد ليفى بعد نحو عشر سنوات على توقيع معاهدة الصلح بين القاهرة وتل أبيب.

فى تلك اللحظات عبرت المشاعر المتناقضة عن نفسها ولكنها كانت فرصة ليتذكر القصة بأدق تفاصيلها المثيرة التى تثبت صلابة معدن الرجال الذى لا ينصهر إذا ما فرض عليهم التحدى.

بعيدا عن الحول الدرامى الذى فرض علينا «طايع» و»رحيم» و»أيوب» و»نسر الصعيد» نحن أمام مسلسل واقعى مثير يمكن أن نطلق عليه «المندوه» وإن كان اسمه الكودى فى الملفات العسكرية: «العملية لطفى».

بعد ساعتين من بدء العبور وبالتحديد فى الساعة الرابعة من عصر يوم 6 أكتوبر 1973 صدرت الأوامر للنقيب أسامة المندوه والعريف فتحى عبدالهادى المدرب على استعمال اللاسلكى بالتوجه إلى مطار ألماظة ليجدا فى انتظارهما قائد الكتيبة العقيد محمود عبدالله وضابطا من المخابرات الحربية هو النقيب سامح سيف اليزل راحا يتحدثان عن مهمة فى وسط سيناء لرصد تحركات العدو فى تلك المنطقة الاستراتيجية وانضم إليهما شيخ بدوى من قبيلة الإحيوات التى تسكن هناك هو الشيخ حسب الله وكان مقدرا للمهمة ألا تزيد عن تسعة أيام.

مهمة صعبة بالقطع بالقرب من عدو لديه أجهزة أمنية محترفة وفى صحراء موحشة يصعب الحصول فيها على ما يضمن البقاء على قيد الحياة خاصة أن الطعام والشراب لا يكفيان سوى أيام كما أن المال الذى صرف لتغطية النفقات لا يزيد عن 90 جنيها بمعدل عشرة جنيهات فى اليوم بعد أن قدرت المهمة بتسعة أيام ولكنها استمرت ستة أشهر.

حملت هيلكوبتر الثلاثة من الماظة إلى أبو صوير لتتزود بالوقود وعلى ارتفاع منخفض كى لا تكشفها رادارات ودفاعات العدو حلقت فوق سيناء وعند منطقة الغرود الرملية أنزلتهم ومنها اتجهوا إلى منطقة تكشف أهم مراكز قيادة العدو فى سيناء مما يتيح للمجموعة أن تضع يدها على كنوز من المعلومات تفيد القيادة فى قراراتها خلال المعارك الشرسة الدائرة بطول جبهة قناة السويس.

صعد الثلاثة إلى أعلى نقطة جبلية واختاروا مكانا مناسبا يسعهم رؤية ما يحدث فى مطار المليز والطريق الأوسط القريب من الممرات بجانب أن المكان كان آمنا محصنا يصعب اكتشافه وتحتاج قوات العدو إلى ساعة ونصف الساعة سيرا على الأقدام للوصول إليه وهى تحت أنظارهم.

استخدمت شفرة مورس للاتصالات بين المجموعة والقيادة واتفق على طريقة ما فى الحوار تعرف منها القيادة ما إذا كانت اتصالات المجموعة آمنة أم أنها تجرى تحت سيطرة العدو بعد أسرها.

أخذ الشيخ حسب الله مبلغا من المال لشراء ما يؤمن طعام المجموعة لو طالت مهمتها خاصة فى ظروف الحرب وشهر رمضان فأحضر جوال دقيق وعلب صلصة وشايا وسكرا وسجائر للعريف فتحى عبدالهادى الشره فى تدخينها واختير مكانا لتخزينها بعيدا عن مخرات السيول ومياه الأمطار وغطيت لحمايتها من الزواحف والحيوانات المفترسة.

كان الشيخ حسب الله يغيب عن المجموعة طوال اليوم ليعود بالقرب من المغرب لإعداد الإفطار، وما أن يقترب من الوادى ويلحظه المندوه حتى ينزل هو وعبد الهادى إليه ليتجمع الثلاثة عند موقع تخزين التموين ليبدأ الشيخ فى تجهيز الطعام على حطب مشتعل جمعه فى طريقه.

لم يكن الطعام ليزيد عن فطيرة تسمى « اللبة « مغموسة فى شوربة الصلصة تقسم على الثلاثة وبعدها كوب من الشاى الأسود يشربونه والشيخ يروى ما جمع من أخبار حول تحركات العدو بجانب ما تبثه محطات الإذاعة المصرية والأجنبية التى يلتقطها الراديو الترانزستور الذى اشتره المندوه قبل السفر وأبقاه على علم بما يحدث فى الحرب.

فى اليوم العاشر من الحرب شاهدت المجموعة من موقعها تدفقات الجسر الجوى الأمريكى بالعتاد والرجال لدعم إسرائيل وبعد يومين وروى الشيخ حسب الله أمرا أثار الدهشة: «إن شكل الدبابات الإسرائيلية القادمة من العريش إلى الجبهة غير معتادة شكلها ليس الشكل المألوف والمعروف للبدو فى مناطق تمركزها فى سيناء».

وأضاف الشيخ: «إن الأمر لم يقتصر على الشكل الجديد للدبابات بل تعداه إلى شكل أطقمها من الضباط والجنود فقد كان الكثير منهم يطلب من البدو الذين يركبون الجمال التقاط صور معهم وهو ما أثار الدهشة، فالجنود الإسرائيليون لا يعتبرون الجمال شيئا مثيرا لهم فقد اعتادوا عليها طوال سنوات احتلالهم سيناء كما أنها موجودة فى صحراء النقب الفلسطينية التى تقع فى جوزتهم وعلى ذلك فإن هؤلاء الجنود والضباط الذين يعتبرون منظر الجمل غير مألوف هم غير إسرائيليين».

فيما بعد ذكر تقرير مراقب عام الدولة فى الولايات المتحدة أن بلاده استخدمت 228 طائرة نقل نفذت 569 طلعة حملت إلى إسرائيل 22.5 ألف طن من العتاد بمعدل 23 طائرة فى اليوم واستمر الجسر الجوى 33 يوما.

أما المعدات الثقيلة وكبيرة الحجم فنقلت إلى إسرائيل بحرا ووصلت أول سفينة يوم 2 نوفمبر 1973 بحمولة تزيد على 33 ألف طن من الدبابات والمدافع والعربات وتكلفت العملية كلها 88.5 مليون دولار والأخطر أنها ساهمت فى إحداث الثغرة.

كان البرنامج اليومى للمجموعة ثابتا.. الاستيقاظ مبكرا مع أول ضوء.. استطلاع المكان بالنظر للتأكد من عدم وجود متغيرات.. الوضوء بأقل قدر من المياه للصلاة.. وتناول إفطار لا يزيد عن كسرة خبز مع شرب القليل من المياه.. وتشغيل المولد اليدوى لشحن بطارية جهاز اللاسلكى قبل الاتصال بالقيادة.

كان اتصال المجموعة بالقاعدة شريان الحياة لأفرادها فلو انقطع الاتصال شكت القيادة بأنهم قتلوا أو أسروا.

ولم يكن الاتصال سهلا بسبب ضعف التكنولوجيا وقتها فبرقية من سطرين كانت تحتاج جهدا كبيرا فى تشفيرها عشوائيا وضبط الترددات واختيار مكان مناسب لهوائى اللاسلكى.

وذات يوم من أيام رمضان الأخيرة فشلت المجموعة فى الاتصال ولم يكن أمام المندوه إلا اللجوء إلى الله وقضى الليل كله فى قراءة سورة الإخلاص حتى غفا نائما واستيقظ ليجد عاصفة ترابية عدمت الرؤية ولكنها كانت طقسا مناسبا للاتصال ونجح فى ذلك وجاء صوت قائد الكتيبة واضحا بعد أن تأكد أن المجموعة آمنة.

وبدأ الخطر يقترب من المجموعة بعد وقف إطلاق النار وطلب الجيش الإسرائيلى من البدو مساعدته فى البحث عن جثة الشهيد عاطف السادات شقيق الرئيس أنور السادات الذى سقطت طائرته بدفاعات مطار المليز عند إغارته عليه.

ومعنى ذلك أن ضابطا من المخابرات الحربية الإسرائيلية سيرافق قصاصى الأثر من البدو للبحث عن جثة عاطف السادات فى المنطقة التى تختبئ فيها المجموعة وفى الوقت نفسه التقطت القيادة الإسرائيلية ترددات لا سلكية فى المنطقة ذاتها مما يعنى وجود مجموعات مصرية محتبئة فيها ووعدت البدوى الذى يرشد عنها بسيارة مرسيدس.

وخلال يوم هادئ فى الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر شاهد المندوه عربات جيب إسرائيلية تتحرك فى اتجاه الوادى المكشوف الذى يطل عليه الموقع الجبلى للمجموعة ولوعورة الطريق ترجل قصاص أثر أسود قاد عدة أفراد فى اتجاه مكان تخزين التموين ولكنه توقف قبل خطوات قليلة منه وعاد إلى سيارته وغادر المنطقة.

لقد اختفت آثار أقدام الشيخ حسب الله بمعجزة من السماء فقد كان يسقط بعضا من الدقيق الذى يأتى به من المكان ليجهز به فطيرة اللبة فراحت الطيور تلتقط ما تناثر من دقيق على الرمال وأخفت بحركتها آثار أقدام المجموعة ومن يومها والمندوه يوصى الشيخ بألا ينسى نصيب الطيور من الدقيق.

الضابط الأسود الذى قاد مجموعة قصاصى الأثر هو نفسه الضابط الدرزى الذى تناول طعام الغذاء مع اللواء أسامه المندوه والسفير محمد بسيونى على جبل الكرمل بعد 15 سنة من تلك الواقعة وكانت مهمته القبض على مجموعة الاستطلاع المصرية فى وسط سيناء.

كان من الطبيعى وقد انقطعت أخبار المندوه أن تصاب عائلته بالقلق عليه وعندما لجأت إلى شقيقه الأكبر عاطف الذى سبقه بخمس دفعات فى الكلية الحربية أقنعها بأنه محاصر بسبب الثغرة ولكنه لم يعد بعد خروج المحاصرين بسبب الثغرة فذهب عاطف إلى كتيبة المندوه للسؤال عن مصيره فطمأنه قائدها بل وطلب منه العودة مساء ليسمع صوته عبر الاتصال المعتاد معه.

وبسبب اختلاف الصوت فى جهاز اللاسلكى أراد عاطف التأكد من أنه يتحدث إلى شقيقه فسأله عن المبلغ الذى أعطاه له وهو 300 جنيه فتصور المندوه أنه يقصد مبلغ التسعين جنيها التى أخذها للصرف على المهمة وسأله عاطف هل أخذ المبلغ بشيك أم كاش فأجاب المندوه: «كاش» هنا تأكد عاطف أن من يتحدث إليه ليس شقيقه.

كان المندوه كما روى لى يريد استئجار شقة فى مصر الجديدة فأخذ شيكا من عاطف بثلاثمائة جنيه ليكمل من عنده مائتى جنيه ليدفع المبلغ كله لصاحب العقار ولكن بسوء الفهم الذى جرى بينهما فى الاتصال أيقن عاطف أن شقيقه أصبح فى ذمة الله ووضعت آية قرآنية على صورته المعلقة فى بيت العائلة باعتباره شهيدا.

فى 16 مارس 1974 تلقت المجموعة أهم خبر فى حياتها فقد صدرت التعليمات إليها بالعودة إلى القاهرة وتركت للمندوه حرية اختيار الطريق المناسب للسير فيه حتى يصل هو وعبد الهادى وأفراد مجموعات أخرى إلى القناة.

أحضر الشيخ حسب الله عشرة جمال بعدد العائدين وتحركت القافلة فى اتجاه الجنوب عبر مسالك مجهولة لا يعرفها سوى البدو الخمسة الذين يقودونها وبعد 5 أيام وبالتحديد يوم 21 مارس وصلت القافلة إلى السويس وكان فى استقبالها قائد مكتب المخابرات العميد فتحى عباس بمائدة إفطار عامرة بكل أصناف الطعام.

وفى القاهرة تكرر الاستقبال الحافل فى مقر الكتيبة وكان بين المستقبلين أحمد وعبد الرؤوف شقيقا المندوه وفى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالى استقبلهم وزير الحربية المشير أحمد إسماعيل على ومدير المخابرات الحربية اللواء فؤاد نصار وبدا أفراد المجموعة فى الحالة التى وصلوا عليها وسجلتها صور نادرة أظهرت لحاهم المطلقة وشعورهم المرسلة.

قدمت مجموعة المندوه ثروة من المعلومات جعلت القيادة تمد مهمتها من تسعة أيام إلى ستة أشهر.

ولم يكن فى نية المندوه تسجيل تجربته البطولية النادرة والمميزة ولكن ما إن انتهى من غداء جبل الكرمل الذى التقى فيه بخصمه الإسرائيلى حتى وجد علامات الدهشة ترتسم على وجه بسيونى الذى أبدا استعداده لإنتاج القصة من ماله الخاص وهنا فكر المندوه فى تسجيلها.

وفيما بعد جمعته جلسة دردشة مع أحمد أبو الغيط الذى كان مديرا لمكتب حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى وعندما سمع منه القصة قال أبو الغيط: «الآن عرفت مصدر المعلومات التى كنا نتلقاها ونتعجب من الحصول عليها» ونصح المندوه بكتابة القصة.

سجل المندوه قصته وصاغها خالد أبو بكر مدير تحرير الشروق وراجعتها الجهات المختصة ونشرتها دار الشروق فى كتاب قرأته من الفجر إلى الفجر فى يوم من أيام رمضان ولم أتركه وأنا أتناول الإفطار مكتفيا بقليل من الطعام.

إننا أمام بطل من نوع خاص لم يخرج من السجن لينتقم على طريقة «رحيم» و»أيوب» ولم يتورط فى العالم السرى لتجارة الآثار على طريقة «طايع» ولم يتقمص شخصية سوبر مان أو جيمس بوند على طريقة «نسر الصعيد».

نحن أمام بطل حقيقى من لحم ودم ساند وطنه وقت الحرب وساهم فى تحقيق النصر بسلاح المعلومات وعاش نصف عام بعيدا عن ترف الحياة وسط أخطار طبيعة موحشة وشراسة عدو يفتقد الرحمة.

لكن يبدو أن مؤلفى الدراما مصابون بالحول وندعو الله لهم بالشفاء.