طارق الشناوي يكتب: "سمراء النيل".. ملهمة العقاد وأم الفنانين وحبيبة الملايين! "١-٢"

الفجر الفني



عندما كانت تتذكر ابنها الوحيد عمرو محمد فوزى، لم تكن تُطلق عليه «راحل»، فهى لم تعترف بموته فى حادث سيارة بعد حصوله على أكثر من جائزة فى الكاراتيه، ظلت تحتفظ بتلك الجوائز وتتأملها، عقلها الباطن أنكر الرحيل، اعتبرته فقط مسافرا خارج الحدود، وأنها سوف تلتقى به مجددا عندما تسافر إليه، وقبل ساعات قليلة التقت عمرو محمد فوزى على باب الجنة.


أمس الأول، وبعد دقائق من احتفالنا بعيد ميلاد جورج سيدهم، علمت من نادية لطفى أنها تواصلت من مديحة يسرى التى انتقلت حديثا لمستشفى المعادى العسكرى لكى تشارك بالحضور، إلا أنها بسبب صعوبة فى الحركة اعتذرت، وتوجهت أنا وزوجتى سوزان حرفى وابنها يوسف لغرفتها فى الدور الثانى، وعلمنا من الممرضة أنها نائمة، فطلبت منها عندما تستيقظ إبلاغها بسلامنا.

فى عيد ميلادها الأخير، حصلت على درجة الدكتوراة الفخرية من أكاديمية الفنون، شاهدتها فى حوار مسجل بالتليفون وهى متمتعة بصحة جيدة جسديا وإدراكيا، وأجرى معها الإعلامى الدؤوب أكرم شعبان قبل نحو عام حوارا مطولا فى إذاعة الـ(بى. بى. سى) فكانت تمتلئ بالحضور، كثيرا ما تحدثت عن الموت الذى لم تكن تخشاه، يكفى أنها ستلتقى ابنها عمرو.. شعرت أن مديحة ستصمد حتى تبلغ عامها المئوى، حيث لم يتبق سوى ثلاث سنوات، إلا أن آخر صورة نُشرت لها قبل نحو أسبوع لم تكن توحى أبدا بذلك، إنها الحضن الدافئ لكل جيل الفنانين الكبار، أمثال نبيلة عبيد ونجلاء فتحى وسمير صبرى وميرفت أمين ويسرا ولبلبة وإلهام شاهين، كل هؤلاء وغيرهم كانوا يجدون فى حضورها حضور الأم.

بداية رحلة الانطلاق، مطلع الأربعينيات، التقطتها مصادفة عين خبير، وهو المخرج ورائد السينما، محمد كريم، فقدمها كوجه جديد فى أغنية «بلاش تبوسنى فى عينيه» مع محمد عبدالوهاب فى فيلم «ممنوع الحب»، وعبدالوهاب هو الذى منحها اسم مديحة يسرى بدلا من اسمها فى شهادة الميلاد «هنومة خليل»، وبعدها أيضا قدمها محمد كريم فى «رصاصة فى القلب» ومع محمد عبدالوهاب شاهدناها كواحدة من الجميلات اللاتى يتحلقن حول عبدالوهاب وهو يغنى «انسى الدنيا وريح بالك»، ولو تأملت التسجيل مجددا ستكتشف أن مديحة هى التى تسرق العين.

غنى لها فريد الأطرش فى عيد ميلادها فى فيلم «لحن الخلود» واحدة من روائعه بكلمات صالح جودت «يا مالكة القلب فى إيدك/ ده عيد الدنيا يوم عيدك».. ومنذ ذلك الحين وحتى بعد زواجها من الموسيقار محمد فوزى، فى كل عيد ميلاد يستمع الجميع إلى صوت فريد وهو يغنى «يا مالكة القلب فى إيدك»، وهو نفس الشريط الذى أداره لها سمير صبرى فى آخر عيد ميلاد أقيم لها 21 ديسمبر الماضى.

مدام مديحة جمعتنى بها لقاءات قليلة إلا أن هناك لقاء لا ينسى ونحن فى طريقنا إلى باريس لحضور تكريمها الذى أقامه لها فى نهاية التسعينيات (معهد العالم العربى)، جاء مقعدى بجوارها فى الطائرة، ووجدتها فرصة لكى أسألها، وباحت بالكثير، مديحة يسرى طلبت على صفحات الجرائد ألا يتم تقديم حياتها فى فيلم أو مسلسل، وأصبحنا جميعا شهودا على تنفيذ تلك الوصية، أكيد رأت الكثير من الأكاذيب تُقدم عن حياة فنانين عاصرتهم، مثل ليلى مراد وصباح وسعاد حسنى وغيرهن.

مديحة عاشت زمنا كانت فيه هى الأقرب لعملاق الأدب العربى عباس محمود العقاد، بل كانت هى ملهمته، وكتب عنها ولها أكثر من قصيدة.

إلا أنها فى أحاديثها الأخيرة لم تعد تذكر كثيرا تلك المرحلة، مع مرور الأيام هل تتغير الحقيقة؟ بالتأكيد لا، إلا إذا طرح الزمن وثيقة تجعلنا نعيد النظر مرة أخرى أو نعيد ترتيب الوقائع فنكتشف شيئا آخر، ولكن لا توجد أبداً حقيقة حسب الطلب وتبعا للمزاج النفسى أو بناء على طلب الجماهير.