د. نصار عبدالله يكتب: عن الأمهات الراحلات

مقالات الرأي



فى كل ربيع أتوجه إلى مثوى أمى التى شاء القدر أن ترحل فى شهر مارس 1995.. أتوجه إليها بالتحية فى ذكراها: «كل ربيع وأنت بخير يا أمى»..مازالت فى قلبى رغم مرور كل تلك السنين.. ربيعا دائما متجدد الحضور..أدين لها بكل شىء فى حياتى تقريبا..بدءا من نعمة الحياة ذاتها بطبيعة الحال.. أدين لها بوصاياها، وأهم من الوصايا مسلكها العملى الذى مازلت أعتبره قدوة لى، أستلهم القدرة على الصبر والصمود فى مواجهة المحن والشدائد، والسعى الذى لايكل إلى تحقيق الآمال المرجوة، والتضحية الدائمة بالمصلحة الشخصية من أجل مصلحة الأسرة والأبناء، أو من أجل أى مصلحة أخرى أعم وأشمل.. ثم الرضا والتسليم بعد ذلك كله بما أراده وقدره الله.. دائما هذا النمط من السلوك يورق ويزهر زهورا جميلة، ولهذا فإنها مازالت فى قلبى كما ذكرت منذ قليل ربيع دائم متجدد الحضور...أمى هى التى غرست فى نفسى حب القراءة وأقنعتنى بأن: «خير أنيس فى الزمان كتاب»، كانت واحدة من القليلات اللاتى أتيح لهن فى صعيد مصر فى مطلع القرن العشرين أن يحظين بقدر من التعليم، وذلك بفضل أبيها الذى كان أزهريا مستنيرا مؤمنا بضرورة تعليم المرأة إلى أقصى المستويات الممكنة، لكن وفاته المبكرة وفقدانها من ثم للنصير الوحيد فى محيط الأسرة الذى وقف إلى جانب أهمية تعليمها، هذا الفقدان أحبط إمكانية استمرارها فى الدراسة، وإن لم ينزع من قلبها ما ورثته من والدها من حب للقراءة فانكبت على القرآن الكريم وكتب السيرة التى كانت تلفت نظرى إليها و تقدمها إلى وتحثنى دائما على قراءتها، وقد شغفت بالفعل بتلك الكتب شغفا كبيرا فى تلك الحقبة المبكرة من حياتى، ثم امتد هذا الشغف من مجال السيرة إلى المجالات الأخرى، ورغم أن والدى قد سبق والدتى فى الرحيل بعشرين عاما إلا أننى لم أشعر قط أننى يتيم إلا حين رحلت والدتى!، فقد انتابنى يوم رحيلها شعور غامر باليتم رغم أننى كنت أناهز الخمسين من العمر إذا ذاك، غير أن الذى قلل من وطأة هذا الإحساس هو ما بذلته شقيقتى الكبرى من جهد لتقليل إحساسنا جميعا بالفقد فغمرتنى وغمرت جميع إخوتى بحنان ليس له حدود، ثم تشاء المفارقات أن تفارقنا فى هذا العام فى نفس هذا الشهر من هذا العام، وتحديدا فى عيد الربيع 21 مارس، حيث وريت الثرى فى اليوم التالى بعد نقل جثمانها من محل إقامتها فى مدينة نصر بالقاهرة إلى مدافن الأسرة بمركز البدارى محافظة أسيوط. بكيتها كطفل وأنا أشعر للمرة الثانية أننى قد أصبحت يتيما رغم أننى قد تجاوزت السبعين!..وربما لأول مرة أتبين عمليا وبوضوح وجلاء شديدين أن الإحساس باليتم لا يرتبط بالسن، ولا يرتبط كذلك بفقد الأبوين البيولوجيين، قدر ما يرتبط بفقد من تشعر أنه يحبك ويرعاك ويهتم بأمرك، ويفرح فرحا خالصا لكل خير يأتيك، ويتألم لكل مكروه يلم بك، وقد كانت شقيقتى الكبرى رحمها الله تمثل هذا النموذج من البشر الذى تمتلئ نفسه بالخير الخالص لكل الناس، ولا تتردد فى تقديم العون إذا كانت قادرة عليه لكل من يطلبه، وبوجه خاص لأقربائها وذويها، وهو نموذج أظن أنه آخذ فى الانقراض، على الأقل فى حدود خبراتى العملية المعاشة. ومع هذا فإن صدى تأثير مثل هذا النموذج على نفوس الناس مازال يعلن عن نفسه فى مناسبات معينة أهمها لحظة الرحيل..جاء أبناؤها وأزواجهم جميعا ومعهم أبناؤهم (أحفادها)، من القاهرة وشاركت سيارات لا تحصى فى موكب التشييع حتى إن السيارة التى تحمل الجثمان كانت قد وصلت فعلا إلى مقر المدافن الذى يبعد عن مدينة البدارى نحو ثلاثة كيلومترات بينما كانت آخر السيارات المشيعة، وهو مشهد ذكرنى بمشهد تشييع والدها ووالدى الذى كان نائبا للدائرة على مدى دورات برلمانية عديدة متعاقبة، أو تشييع عمها المستشار ممتاز نصار النائب المعارض الوحيد الذى نجح رغم أن الرئيس السابق أنور السادات كان قد ضاق بمعارضته هو ومجموعة من المعارضين فحل البرلمان وأعاد الانتخابات من أجل استبعادهم، لكن ممتاز نصار نجح بعد أن قام أنصاره بحماية صناديق الانتخابات بالأسلحة الآلية!.. أو تشييع جنازة شقيقها وشقيقى الدكتور عبدالحق نصار، الذى أهديته ديوانى: «سألت وجهه الجميل»، وهذا العنوان هو عنوان الديوان وهو فى نفس الوقت عنوان القصيدة التى كتبتها فى رثاء عبدالحق نصار الذى كان بدوره نموذجا آخر من نماذج الخير الخالص فى عالم يعج بالشرور، ولقد كان الموت المأساوى لنجله الراحل المستشار ياسر نصار مناسبة أخرى لجنازة مهيبة لم تكن تقل فى جلالها عن أى جنازة أخرى مهيبة. والفضل فى ذلك كله إلى الأمهات اللاتى أنجبن مثل هذه النماذج، فلهن جميعا أعمق الدعوات.