عبد الحليم حافظ يكشف قصة حبه الوحيد لـ جيهان العلايلي في مذكرات بخط يده

الفجر الفني



بدأ عبدالحليم حافظ كتابة مذكراته، في يناير عام 1973، أثناء رحلته العلاجية في أكسفورد، حيث أخبره الأطباء بأنه يعيش الآن بـ10% من كبده، وصارحوه بأن هذه أخطر علامات المرض، لكنه ورغم كل ذلك كان يؤكد دائمًا: "لا أصدق الموت، أحس أني أخدعه دائمًا وأهرب منه"، حتى وافته المنيّ يوم 30 مارس عام 1977.

"عندما فكرت في كتابة مذكراتي أحسست أنني أريد أن أصرخ بكل ما حدث في عمري مرة واحدة (حب، وفاء مرض، خيانة، صداقة، سعادة، ألم، رحلات إلى بلاد الدينا) باختصار الحياة رحلة رائعة رغم كل ما فيها من آلام، والآن أحاول بهدوء أن أحكي للأوراق حياتي"، كانت تلك هى الكلمات الأولى التي قدم بها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ مذكراته للجمهور، وهى المذكرات التي كتبها بقلمه وإحساسه ورفض أن يشاركه أحد في كتابتها أو تحريرها، ونشرت على حلقات في مجلة "صباح الخير"، منتصف عام 1973، ورغم أنها تحمل كل أسرار العندليب، إلا أن أحدا لم يلتفت إليها وما ورد فيها على لسان صاحبها تنفي الكثير من الحقائق التي نسجها الكثيرون من وحي خيالهم ممن ادعوا بوجود صلات تربطهم بالعندليب.

أوصى العندليب أصدقائه لويس جريس، ومنير عامر، بعدم نشر هذه المذكرات إلا بعد وفاته، دون أن يوضح أسباب رغبته في ذلك، لكنه أكد في مقدمتها أنه فكر كثيرًا قبل أن يبدأ في كتابة قصة حياته، حتى استقر الأمر في ذهنه مُقررًا في مقدمتها أن يختصر كل الإهداء في سطرين قصيرين، لشخص واحد اختاره من بين مئات مروّا في حياته، قال فيه: "إلى التي لم أرها في يوم من الأيام، لكني سآراها يومًا ما.. إلى أمي".

"أقسم بالله العظيم يمين اسأل عليه يوم القيامة أنني لم أحب واحدة من النساء مثلما أحببتها"، هكذا بدأ حليم حكاياته عن قصة حبه الكبيرة، من سيدة أطلق عليها في مذكراته اسم "ليلى"، وليلى ليس اسمها، لأن اسمها يجب أن يظل سرًا، هذا ما يراه العندليب، مادحًا صفاتها وجمالها بكل ما أوتي من كلام حسن، حتى أنه قال: "كأنني ولدت يتيمًا حتى أولد في عينيها لتصبح أمي، كأني عزفت على الأبواب لتخرج هي من ألحانها، كأني حضرت إلى القاهرة لأعيش كل ما مضي من العمر لألتقي بها".

كان اللقاء في الإسكندرية، الصيف، كابينة إحسان عبدالقدوس، حيث يجتمع كل الفنانين، بينما هي في الكابينة المقابلة، رآها، ومن هنا بدأت لحظة تعارف عميقة بنظرات العيون، حتى أرخت عيونها، فقال لكمال الطويل: "نتمشى"، فرد الثاني: "بس طابور البنات حايمشي ورانا"، وبالفعل ظل طابور البنات يمشي بجانبهما أو حولهما، لكن بعد دقائق انفض المكان وجلسا وحدهما.

كأن بريق عينيها يوري له أسئلة كثيرة، وأحس أن عيونها تسأله: "هل أنت مخلص"، وكأن فيضًا من الحب انهمر من السماء في قلب عبدالحليم، فبدأ يقترب من الكابينة التي تجلس فيها، حتى التقت عيناهما مجددًا، فتذكر في تلك اللحظة أنه رآها من قبل في لندن، محل "هارودز".

يقول حليم: "كانت أجمل من الإنجليزيات، جمالها خارق للطبيعة، وكنت أحسبها عند رؤيتي لها في لندن إنها إنجليزية، لكنها تكلمت بالعربية مع صديقة لها، وعندما التفتت لأكلمها، اختفت، وها هي أمامي الآن".

كان لابد أن يتحدثان، ولا يدري كيف تعارفت شلة أصدقائه بشلة صديقاتها، كل ما يعرفه أنه كان زفافًا يحضره، فالتقاها، وكانت أول كلمة قالها لها: "وحشتيني جدًا، جدًا"، ولم تندهش هي، كأنها تعرف أنه يشتاق إليها منذ أن ولدت، وبعد لحظة صمت قال حليم: "إنتي عارفة إنهم بيحكوا لي إني كنت زمان وأنا صغير عمري سنتين مش بستريح إلا لواحدة بس هي عمتي زينب، كانت بترضعني، وكنا أزحف من حارتنا في الحلوات لحارتهم، ومرة والدي دور علي في البلد كلها لاقاني بزحف شوية وأمشي شوية، كنت رايح لزينب، إنتي عارفة أنا حسيت من شوية إني كنت باروح أدور عليكي".

ضحكت، والتزمت الصمت عن الكلام، بينما حليم يخشى النظر إلى يديها حتى لا يعرف الإجابة عن سؤال هل هي مرتبطة أم لا؟، إلا أن الفضول دفعه للنظر فلم يجد دبلة في اليمين ولا في الشمال، وقبل أن يبتهج قلبه، قالت إحدى صديقاتها: "ده أحمد ناوي يقابل باباكي علشان يصالحك، ماهو كمان مش معقول يبقى عندكم ولدين وتتطلقوا"، وكأنها تدق جرس إنذار أمام عينيه، إلا أن رد ليلى أشفى قلبه مجددًا: "ومش معقول كمان أفضل عايشة مع جنون غيرته، أنا مش عروسة حلاوة"، وكأنها تحدثه معلنةً أن إشارة المرور إلى قلبها خضراء.

بعد هذه الليلة، طلب حليم من مجدي العمروسي أن يبحث له عن شقة جديدة، فتعجب صديقه وسأل: "عايز شقة تانية ليه؟"، فجاء رد حليم جادًا ومختصرًا: "عايز أتجوز في هدوء"، ومن بعدها عرف أكثر من صديق بخبر حبه وطلب من الجميع أن يتكتموه، فالمسألة معقدة، وبدأ أيامها يعرف أن الشهرة عذاب حقيقي، تمنعه أن يمشي مع حبيبته، وأن يركب معها عربة واحدة.

كان بينهما ميعاد دائم في سينما "سان استيفانو"، يذهبان كل مساء، تقطع تذكرة ويقطع تذكرة وتدخل هي أولًا ويدخل هو بعدها والتذكرتان متجاورتان، وفي أثناء هذه اللقاءات السرية حكت عن تفاصيل زواجها، لقد تزوجها لأنها جميلة فقط، وأنها وافقت على الزواج به لأن أسرتها وافقت عليه وكان عمرها 16 عامًا، وأنه تحول إلى إنسان غيور للغاية، ويعاملها بإهمال وقسوة، وتحول الزواج إلى سجن، وكلما تحدثت مع والديها تقول الأسرة الطلاق عيب.

قالت له إنها تشعر بالسعادة بجانبه: "إنت عارف إني دايمًا كنت بحب أعرف أخبارك واقلق عليك قبل ما أعرفك؟"، فأقسم لها أنه كان يعرفها قبل أن يراها: "ده أنا يوم ما شوفتك في لندن كنت بتمنى أكلمك لكن إنتي جريتي، وقعدت أدور عليكي كتير هناك، ومالقتكيش".

سرحت ليلى قليلًا، تاهت منها عيونها في الأسى، ثم قالت: "أنا عارفة إن عمري قصير، حاسة كده"، كأنها تقول له حقيقة تعرفها جيدًا، فقال لها بانزعاج: "أنا بكره الكلمة دي، ومش عارف أعيش إزاي من غيرك، لازم أحبك أكتر من كده"، فسحبت الهواء إلى صدرها بالفرحة والدهشة معًا.

كان لابد أن يترجم كل شيء عمليًا، فعادوا إلى القاهرة، وبدأ يبحث عن شقة جديدة غير شقة "عمارة السعوديين"، ووجدها، وبدأوا سويًا في تأثيثها، واختارا ألوان الستائر، السجاد، اللوحات، المكتب، حجرة الموسيقى، حجرة النوم، وكانت محاولات الطلاق تجري، وكان حليم ينتظر اليوم الذي تصل فيه المفاوضات إلى نهاية، إلا أن المشكلة أن ولديها بلغ الصغير فيهما التاسعة، والكبير عمره عشرة أعوام، ومعنى ذلك أن الزوج يستطيع أن يطلب حضانتهما، هذا حقه الشرعي، وحليم لا يجرؤ أن يطلب منها التخلي عن ولديها، لأنه يعرف تمامًا معنى الحياة بدون أم.

كان الزوج قاسيًا في مطالبه، إنه يوافق على طلاقهما بعد أن يأخذ منها أحلى ما في حياتها، الأبناء، لذلك كثرت الدموع في عيونها، وتجمدت الدموع في عيون حليم، ولم يستطع أن يعبر عن ما بداخله إلا بالغناء، فغنى لها "بتلوموني ليه، لو شفتم عينيه، حلوين قد إيه، هاتقولوا انشغالي، وسهد الليالي، مش كتير عليه".

قال لها حليم ذات ليلة: "خلاص مادام مش قادرة تسيبي الأولاد يبقى تروحي بيتك"، وبعد سلسلة مداولات استقرا على أن تعود إلى الزوج، فأخذها وسافر إلى مقر تجارته بالخارج، وكان حليم يسافر إلى أوروبا أحيانًا ولا يدري لماذا، حتى جاء ديسمبر عام 1963، وإذا به عائدًا من نيويورك إلى باريس، يلتقي بها في مطار "أورلي".

دار حوارًا عاديًا، لكن قلب حليم يحدثه أن هناك شيئًا غير عادي، وكأنها تقترب منه أكثر وأن الدنيا تخبيء لهما وضعًا جديدًا، وإذا به بعد عودته للقاهرة يفاجئ باتصال منها، تخبره فيه أن "الطلاق تم"، ولم يتردد وقتها في أن يطلب منها أن يعيشا سويًا، وبالفعل بدأوا تأثيث البيت من جديد، وأثناء رحلة البحث عن مستلزمات المنزل وقعت فجأة على الأرض.

قال له الأطباء أن فيروسًا خطيرًا تسلل إلى المخ، ولم يصدق أن المرض من جديد يمنعه من استكمال حياته بشكل طبيعي، ليس مرضه وحده لكن مرض حبيبته أيضًا، وكعادته يعبر عن مشاعره بالغناء، فغنى لها: "في يوم في شهر في سنة"، ثم أغنية: "لو كان بإيدي أفضل جنبك، وأجيب لعمري ألف عمر وأحبك".

استمر المرض يتسلل إلى حبيبته، يفترسها، قالوا له العلاج في لندن، فسافر بها إلى لندن، ثم قالوا علاج مرضها في باريس، فسافر بها إلى باريس، وأخيرًا قالوا إن علاجها في أمريكا، فسافر من باريس إلى أمريكا، وكان قلبه معلقًا مع الطائرة، لكن المرض ظل يفترسها، حتى جاء الموت.

يقول حليم: "أنا أمام الموت أصدق حكمة السماء الخالدة: ندخل الدنيا بلا اختيار، ونموت بلا اختيار، وبين الميلاد والموت نختار.. نجحت في اختيار طريقي كمغن، ولم أنجح في اختيار شريكة عمري لأن الموت تدخل".