دكتور محمد حسن عبد الله يكتب: نُص دستة بنات .. !!

ركن القراء





على التتابع تقاطرن بين الولد البكري ، والولد قبل الأخير ، وكأنهن نتاج آلة منضبطة زمنيا ، وإن انقسمن – شكلا وطباعا – بين الأم والأب : هانم – حكمت – سميرة – زينب – بثينة – صفية . ولأنني الأخير في الطابور ، لم أشهد مثولهن في بيت الأسرة ، شاهدت الأخيرتين فقط ، وسمعت عن زواج الأولى بأنها كانت "غاية في الجمال" – وهذا يعني أنني حين شاهدتها كانت غير ذلك – وأنها زوجها من أعيان القرية المجاورة (العميد) أمهرها أربعين جنيها ذهبيا ، كانت أمي تروي ذلك بكثير من الفخر ، ولكنها لم تحدثنا كثيراً عن زواج الأخريات !!

المصاهرة علمتني الكثير ، على الرغم من أنني لم أعرف الكثير عن اخواتي اللاتي ذهبن إلى بيوت أزواجهن قبل زمن الوعي ، تعلمت أن زوج الأخت (وزوج البنت) يستمدُ قيمته من معاملته لزوجته ، ولعلي حرصت على تلقين هذا المبدأ لأولادي ، فأوصيتهم أن يحسنوا معاملة أختهم الوحيدة (الأخيرة) فعلى قدر معاملتها في بيت أبيها ، ستكون درجة قبولها لمعاملة زوجها !!

تفرقت أخواتي الست بين : العميّد ، وتمي ، وميت غمر ، والمنصورة ، وبعضهن تنقلن بين القرى والمدن الصغيرة ، تبعا لموقع الزوج الموظف . حرص أبي على ألا يضم بيت العائلة أكثر من بنت في سن الزواج ، حتى لا تتنافس مع أختها التالية في رغبة الزواج ! بما يعني أنه مع أول متقدم مناسب ، مشهود له بالخلق ، والاستقامة ، فإن أبي كان لا يدقق في الجوانب الأخرى . لهذا لم تكن لبناته – بعد زواجهن – مشكلات حادة (وإن حدثت استثناءات قليلة جدا ، شاهدت بعضها وأنا طفل) ، وإنما بدأت المشكلات بين الأخوات حين أصبح لكل منهن عدد من الأطفال الذكور والإناث ، ففي سن الطفولة حدثت مشاكسات بسبب التفوق في الدراسة ، واستكمال التعليم إلى الجامعة ، أو الاكتفاء بالدبلوم ، وأحيانا بما دون الدبلوم . ثم تحولت المنافسة إلى معارك ، وخصومات حين بدأت مشاعر الحب تدب بين أبناء وبنات الخالات ، فكان بعض الأمهات ترى أنها أعلى مقاما من أختها ، أو أن ابنها (أو ابنتها) يستطيع أن يتزوج (أحسن) من بنت خالته !! فمع كثرة حالات الشغب ، والخصومة لهذا السبب الخاص ، لم ينجح غير قصتين في الاكتمال ، انتهت إحداهما إلى الفشل في غاية الأمر .

عندما كنا – عبدالله وأنا – أطفالا ، كنا موضع عطف أخواتنا المتزوجات ، باستثناء حالات فردية معي خاصة ، لا أقول لتنافر الطباع ، بل لتشابه الطباع ، وعندما تخرجنا من الجامعة ، بدأ العطف يتحول إلى منافسة على نيل زياراتنا ، ورعايتنا لأولادهن ، فإذا أصبحنا موظفين في الكويت ، فقد قامت حرب تنافسية على العزايم ، والزيارات ، ونقل الأخبار والأقوال المأثورة .. إلخ .

تبقى في عمق الذاكرة صورة بيتنا – بيت العائلة – وقد انتصف شهر رمضان ، فأصبح مستهدفاً للقاء الأخوات المغتربات مع أطفالهن ، وأزواجهن ، وكان بيتنا يتسع للجميع . أذكر أن رائحة صناعة الكحك ، والغريبة ، والبسكويت ، والقرص بعجوة ، تبدأ في تعطير المكان من منتصف رمضان ، حتى ليلة العيد ، فإذا توقف الفرن بدأت البوابير والكوانين تنضج البط ، والأوز ، والديوك ، التي تحولت في زمن آخر إلى سمك البكلاه .. إلخ . وتستعيد ذاكرتي – وأنا تقريبا في سن السابعة – وقد تحلق أبناء وبنات أخواتي الكثر ، حول الطبلية ، وبدأن الأكل ، وأنا – الخال الصغير – واقف أشاهد ، واسمع لهجات من كل أنحاء الدلتا ، وكل يطالب بالملعقة ، فتتعدد اللهجات ، حسب استطاعات الأطفال. فهناك المعلأة ، والمألعة ، والمعلجة ، وكان عبد المنعم ابن عمتي يقول على الملعقة : لَمَكَة !! لماذا وكيف ؟ للآن .. لست أدري



دكتور محمد حسن عبد الله أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية دار علوم جامعة الفيوم ،،،