رحلة هجرة من الإسكندرية إلى أسوان فى حرب السويس تحت تهديدات الطائرات المعادية.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (7)

العدد الأسبوعي



فى الغارات وضعتنا أمى أنا وإخوتى بعرض السرير وبقيت ساهرة على مقعد بجانبه!

صديق مغامرات الطفولة "الفهلوى" لم يكمل تعليمه لكنه أصبح ثريا يغير النساء كما يغير الثياب!

دعت البيجوم أغاغان عائلات من بناة السد العالى على الإفطار وخصتنى بقطع من الحلوى!

فى أسوان كنا نصطاد العقارب بسيخ رفيع ونجمع الطلقات الفارغة بعد تدريبات الجيش على ضرب النار


لا تزال مشاهد الذاكرة الأولى حاضرة أمام عينى بوقائعها وتفاصيلها وشخصياتها وكأن أحداثها وقعت بالأمس القريب.

إننا نتقبل ما عشناه فى طفولتنا ببراءة فلم نكن قادرين على تقييمه ورغم ما به من سذاجة فإنه يظل مصدرا للشعور بالروعة.

والمؤكد أن علماء النفس وكتاب السير الشخصية يجدون فى سنوات الطفولة مفاتيحنا وعيوبنا وتفسير تصرفاتنا الحسنة والسيئة بعد أن نكبر فليشقوا بالبحث والتنقيب والتقييم.

فى تلك السنوات البعيدة كان أقرب أصدقائى محمود حمدى وهو شخصية فهلوية يمتلك خبرة فطرية فى الحصول على المال بسهولة لدرجة أنه أقنعنى ذات يوم بأن أحضر من بيتنا كوبا من العسل وكيسا من الفول السودانى ليصنع منها حلوى كنا نسميها «على لوز» وما إن انتهى من تجهيزها حتى راح يبيعها لصغار الشارع وأنا منهم.. دفعت ثمن المادة الخام وثمن المنتج النهائى ولم أشعر بالغضب منه فقد كان يفتح لى عالما من المغامرات المثيرة.

لم يكمل محمود دراسته الجامعية وراح فور حصوله على شهادة الثانوية العامة يعمل مع عمه فى مكتب تخليص للبضائع فى ميناء الخشب القريب من حى الورديان بالإسكندرية ليصبح فيما بعد واحدا من التجار الذين يعدون على الأصابع من كثرة وتنوع البضائع التى يستوردها فقد كان أوائل من اتجه شرقا ناحية الصين.

بعد السنوات التى قضيناها معا فى الإسكندرية تفرقت بنا السبل لسنوات طويلة لكن كان سهلا عليه التواصل معى فيما بعد بسبب عملى فى روزاليوسف.. عادت المياه بيننا إلى مجاريها.. اتفقنا على يوم نقضيه معا قبل زحام الصيف.. نفطر فى فندق فلسطين المنتزه.. وأسمع منه أخباره فى فندق سيسل الرمل.. ونسهر معا فى أحد كباريهات كامب شيزار التى يعد زبونا دائما وشهيرا فيها.

وبالطبع تزوج أكثر من امرأة.. آخر إحصاء سمعته منه قبل نحو 15 سنة كن خمس نساء.. بينهن نجمة تليفزيونية طلقت منه بعد أن أنجبت منه ولدا وبنتين.. بجانب ابنة وزير سابق وجدت فى ثروته ما يعوضها عن استقامة أبيها الذى خرج من مولد الحكومة على غير المعتاد بلا حمص.

فى طفولتنا لم نكن نفترق.. نذهب إلى المدرسة معا.. ونلعب فى الشارع حتى النوم معا.. لكن.. ما حدث فى خريف عام 1956 وضعنا فى موقف صعب كدنا أن نفقد بسببه حياتنا معا.

فى ذلك الوقت هاجمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل مصر فيما عرف بـ«العدوان الثلاثى» أو حرب السويس.. طلينا النوافذ باللون الأزرق.. ووضعنا أكياسا من الرمل فى مداخل البيوت.. وغطينا مصابيح الكهرباء بورق داكن اللون.. وتناوب الرجال ورديات الدفاع المدنى لمراقبة تنفيذ التعليمات قبل الغارات وبعدها.

لم يكن أبى معنا وإنما كان فى أسوان مع المجموعة الأولى التى رافقت المهندس صدقى سليمان وزير شئون السد العالى ورئيس الحكومة فيما بعد لبحث الخطوات التمهيدية لتنفيذ ذلك المشروع العملاق الذى غنينا وكتبنا له كثيرا.

وخلال أيام الحرب لم تجد أمى وسيلة لنظل تحت عينيها سوى أن ننام جميعا وكنا لا نزال أربعة بعرض السرير بينما تجلس هى على مقعد بجانبنا طوال الليل.. تغفو أحيانا وتستيقظ غالبا.

وأسعدنا أن تغلق وزارة التربية والتعليم المدارس وإن سمحت لنا بالكتب والكراسات ربما يعلمنا أحد فى العائلة.

لم يكن يهمنى أن نحتفظ بكراسات الحساب والعربى والخط وإنما كان يهمنى أن يتركوا لنا كراسات الرسم وعلب الألوان فقد كنت أستمتع بوضع الألوان فى تناسق وإن لم أكن بارعا فى الرسم.

وما إن دخلنا الفصول لنتسلم الكتب والكراسات حتى انطلقت صفارة إنذار تحذر من غارة جوية وخرج المدرسون والتلاميذ مسرعين إلا أنا ومحمود بقينا فى الفصل وعيوننا على الثروة التى أمامنا من علب الألوان وكراسات الرسم ودون أن ننطق رحنا نحمل ما نقدر عليه منها ولكن ما كدنا نغادر المدرسة حتى بدأت الغارة وبدأ انفجار القنابل الثقيلة التى تلقى بها الطائرات قريبة من آذاننا فجرينا بأسرع ما نقدر دون أن نهتم بما يتساقط منا وقبل أن نصل إلى شارعنا بخطوات سقطت قنبلة على المدرسة ودمرتها.

لم تمر سوى عدة أيام حتى فوجئنا بأبى يدخل علينا ليجدنا نجلس فى شبه ظلام حالك فقال: أنتم هنا عاجزون عن إشعال شمعة وأنا فى أسوان أعيش فى كهرباء بلا حدود حضروا أنفسكم لتسافروا معى الخطر هنا فى كل لحظة وهناك لا نشعر بالحرب أبدا»..

وبعد 48 ساعة أغلقنا مسكننا فى الإسكندرية وبدأنا رحلة السفر إلى أسوان.. انتقلنا فجأة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.. من البرد القارس إلى الطقس الحارق.. من مدينة متوسطية عريقة ومزدهرة إلى قرية صغيرة سمراء منفية.

بسبب تغير مسارات القطار خوفا من ضربها استغرقت الرحلة من الإسكندرية إلى القاهرة عشر ساعات وانتقلنا إلى محطة الوجه القبلى ولم نجد سوى المقاعد المتناثرة على أرصفتها لننام عليها فقد كانت الاستراحات مغلقة لسبب لا نعرفه وفى منتصف الليل تحرك القطار المتجه إلى أسوان وكان يقف فى كثير من المراكز والمديريات التى لم نعرفها من قبل وأخيرا بعد 48 ساعة من الاهتزاز وصلنا إلى أسوان.

كانت أسوان مدينة صغيرة مغلقة على أهلها الذين يتسمون بالطيبة والأمانة والاستقامة والنظافة لا يزورها فى الشتاء إلا السياح وطلبة المدارس والجامعات، أما باقى السنة فيندر أن تصادف فيها غريبا ولذلك كان من السهل تمييزنا بين أهلها.

قبل السد العالى لم يكن الوافدون ليزيدوا عن أصحاب المناصب العليا مثل المحافظ ومدير الأمن وقاضى المحكمة وكانت الحكومة تخصص لهم مساكن تمتلكها يشغلونها طوال فترة خدمتهم فلم تكن أسوان تعرف نظام تأجير البيوت بعد.

خصص لنا فيللا مشيدة على الطراز الإنجليزى فى معسكر الجيش بها حمام سباحة لم يستخدمه سوى الصغار وكانت هناك سينما مفتوحة لا تبدأ عروضها إلا بعد أن يحل الظلام ليتاح للعائلات التسلل إليها دون أن يلمحهم الجنود وشاهدت لأول مرة مديحة يسرى ووقعت فى هواها وعندما التقيت بها فيما بعد فى وجود يسرا رويت لها عن مشاعرى الأولى نحوها ونحن نضحك.

وكنا نستخدم سيارات الجيش فى تنقلاتنا.. كان يكفى أن نشير إلى واحدة منها لتأخذنا إلى حيث نشاء خاصة إلى المدرسة.. كنت فى مدرسة.. مصطفى كامل الابتدائية.. وشقيقى الكبير فى مدرسة.. أنس الوجود.. الإعدادية وكانتا فى مبنى واحد يطل على محطة القطارات التى كانت المركز التجارى للمدينة وإن كانت غالبية المحلات هناك لا تبيع سوى البلح الجاف والكركاديه والتوابل وكان أصحابها يتركونها مفتوحة وقت الصلاة دون خوف من السرقة فقد كانت أسوان فى ذلك الوقت مدينة خالية من الجريمة.

ولبعد المسافة بين القاهرة وأسوان ألف كيلومتر كانت الصحف تصل فى اليوم التالى لصدورها وكنا نسعد بالذهاب إلى المحطة لشراء الجرائد وروز اليوسف وآخر ساعة ليقرأها أبى أما أمى فكانت تفضل مجلة حواء لتستفيد منها فى صناعة الجبن والمربى والكيك وهى سلع لم تكن تباع فى أسوان.

وفى تلك الفترة كانت تصدر كل سبت رواية جديدة من سلسلة روايات عالمية ملخصة وسهلة وشدتنى إليها قبل أن أتمكن من قراءتها ولم يكن سعرها يزيد على ثلاثة قروش وما إن نجحت فى التعامل معها حتى واظبت عليها وتعرفت منها على كبار مبدعى الروايات الكلاسيكية فى العالم مثل ليو تولستوى وتشارلس ديكنز والكسندر دوماس.

وخلال عامين قضيناهما فى أسوان تابعت ما نفذ من خطوات فى بناء السد العالى وحرصت على زيارة مواقع العمل أكثر من مرة لسبب آخر.. أن الزيارة كانت تنتهى بتناول. آيس كريم.. بالفواكه فى تراس فندق أولد كتراكت ولم أكن قد تذوقت طعمه من قبل بجانب أننى وقعت فى سحر الفندق بعمارته وأثاثه وموقعه على النيل وفيما بعد كنت أقضى رأس السنة مع عائلتى الصغيرة فيه وهناك تعرفت على شخصيات مؤثرة فى المجتمع مثل رئيس الحكومة الأسبق عبد العزيز حجازى والكاتب الصحفى المميز على السمان واقتربت أكثر من أحمد حمروش وهيكل وإبراهيم نافع ورجاء زوجة يوسف إدريس وفيما بعد التقيت هناك بالدكتور مجدى يعقوب وصورت معه حلقة خاصة عنه فى برنامجى التليفزيونى حكاية وطن.

وصادفت هناك أيضا الرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران وكان فى آخر أيامه وجاء هذه المرة للنقاهة من جراحة إزالة ورم سرطانى فى البروستاتا وكانت بصحبته مازارين بينجو ابنته غير الشرعية اللتى لم يعترف بها علنا ولم يسمح لها بكلمة بابا.. إلا بعد أن نشرت مجلة..بارى ماتش.. صورة لهما وهما يخرجان معا من أحد المطاعم الباريسية وبعد عامين من وجودهما فى أسوان تصدرت جنازته.

وبدعوة من البيجوم أغاغان لمجموعة من بناة السد العالى وعائلاتهم على إفطار بالقرب من ضريح زوجها وجدتنى أشعر بجاذبية خاصة نحوها مثل مديحة يسرى.. خطأ شائع أن الصغار لا يميلون إلى الجنس الآخر قبل البلوغ.

والبيجوم أم حبيبة هى الزوجة الرابعة للسلطان محمد شاه الحسينى أغاغان الثالث وهى فرنسية الأصل اسمها إيفيت لابدوس كانت ملكة جمال بلادها عام 1938 تعرف عليها فى إحدى حفلات قصر عابدين وتزوجها وعمره 65 سنة ويكبرها بأكثر من 35 سنة وجرت مراسم الزواج حسب تقاليد الطائفة الإسماعيلية الشيعية التى يوصف بإمامها، وما إن جاء إلى أسوان فى منتصف خمسينيات القرن العشرين بحثا عن طقس مناسب لمتاعبه الصحية حتى وقع فى هوى المدينة السمراء بل أكثر من ذلك قرر أن يدفن فيها وراح يبنى مقبرة على الطراز الفاطمى فى البر الغربى للنيل وبعد عامين دفن فيها ولم تنس زوجته يوما أن تضع على ضريحه وردة حمراء وعندما توفيت عام 2000 دفنت إلى جواره.

وجدتها تجلسنى بجوارها وتصر على إطعامى بنفسها وتدس فى جيبى قطعا صغيرة من الشيكولاتة دون أن تنسى منحى أكثر من قبلة على خدى لم يتصور أحد شعورى بها.

على نفس البر الغربى للنهر قبة أخرى أثارت فضولى كنت أراها من كل مكان أذهب إليه بل كنت أعتقد أنها تتحرك معى وسألت زميلى فى الفصل «شعيب».. عنها فقال فى خشوع مفاجئ لا يناسب طبيعته، إنها مقام سيدى.. أبو الهوا مضيفا. لو قرأت على روحه الفاتحة ستنجح دون مذاكرة.وفعلت ونجحت وفرحت لذلك الاكتشاف السحرى السهل لكن فيما بعد أدركت أن الانتقال من سنة إلى أخرى فى التعليم الابتدائى يحدث تلقائيا دون واسطة قديسين أو أولياء لله صالحين.

وفيما بعد أيضا عرفت أن اسمه سيدى على أبو الهوا وأنه تأثر بنظريات البعث والخلود عند نبلاء وكهنة الفراعنة وأوصى بدفنه وسط مقابرهم فوق الجبل الصخرى المنحوتة فى مغاراته حجرات تصور الحياة اليومية لهم ومنها ذبح البقر وصيد السمك وعزف الموسيقى وخبيز الكعك وصب المعادن.

وتحمست لاقتراح شعيب بزيارة الضريح لتقديم الشكر لصاحبه على نجاحنا دون مذاكرة وركبنا قاربا صغيرا ممشوقا للعبور إلى الضفة الأخرى للنهر ومشينا عدة كيلومترات لم أفكر فى إحصائها وصعدنا تلا مرهقا وقبل أن نصل إلى الضريح وجدنا فوجا من الكلاب الشرسة تنتظرنا فرجعنا خائفين لنكتشف فى النهاية أن المذاكرة أسهل.

كان شعيب يسكن فى منطقة تسمى الحكروب، كثيرا ما دعانا إليها لصيد العقارب بسيخ رفيع نغرزه فى ظهرها دون خوف منها، فالصغار لا يدركون الخطر إلا بعد أن ينال منهم.

وكثيرا ما كنت أدعوه إلى زيارتى فى معسكر الجيش حيث نسكن لنجمع فوارغ الرصاص بعد الانتهاء من تدريبات ضرب النار فى التبة التى تبعد عنا بنصف كيلومتر ولكن ما لفت نظر شعيب أكثر المجلات الملونة المتناثرة فى بيتنا، كما سقط فى هوى الكيك الذى كانت تصنعه أمى.

ومن الحكروب أيضا كانت تأتى إلينا «أم زكريا» لتبيع لنا البط والحمام والفريك والملوخية الجافة وتساعد أمى فى البيت وعندما تعثرت شقيقتى الوسطى فى دراستها الإعدادية جاءت.. أم زكريا بمدرس ليساعدها وكان وسيما يشبه النجم الأمريكى الأسمر سيدنى بواتيه وما إن تجاوزت شقيقتى أزمتها الدراسية حتى فوجئنا به يطلب يدها للزواج لكن أبى رفض ليس بسبب اللون كما تصور ولكن لصغر سنها ولإصرار أبى على أن تكمل تعليمها فلم يكن يفرق بين الولد والبنت فى شىء بما فى ذلك التعليم حتى أعلى مستوى وهو أمر لم يكن شائعا فى ذلك الوقت، ففى أفضل الأحوال كان السائد تعليم البنت تعليما متوسطا يمنحها فرصة أفضل للزواج فى سن مبكرة.

وشجع الأسرة على ذلك مجانية التعليم التى امتدت تدريجيا من التعليم الابتدائى إلى التعليم الجامعى ولولا هذه المجانية لتعبنا كثيرا حتى نحصل أنا وإخوتى على شهادت عليا، رغم أن دخل أبى كان مناسبا بالنسبة إلى أسرة متوسطة لكن الدخل لم يكن ليحتمل تكاليف الدراسة لسبعة معا بجانب نفقات السكن والطعام والثياب والصحة والمصيف والمجلات والروايات والمواصلات ومصروف الجيب.

ولكى نشعر بالمسئولية كان أبى يضع بين أيدينا كل ما يكسب من نقود لنرتب بأنفسنا أولويات إنفاقها.. كتب الدراسة قبل الثياب.. العلاج قبل المصيف.. النظارة الطبية قبل النظارة الشمسية مثلا.

ولم يكن من الصعب اختفاء..أساور.. الذهب المصاغة على شكل ثعابين.. من معصم أمى فقد كانت نوعا من الادخار ينقذنا وقت الأزمات وعندما كنا نراها من جديد حول معصمها نعرف أن هناك انفراجة مالية فنضاعف من طلباتنا.

لكننى لم أستوعب ذلك إلا بعد أن تركنا أسوان إلى القاهرة بعد نحو عامين.

فى القاهرة التى ظللنا فيها بدأت حياتنا تنمو وتنضج وتتغير.. إنها عالم آخر صاخب ومتوتر وجاف المشاعر غير أسوان التى كانت حانية وناعمة وطيبة.