"ابتسامة مريضة".. قصة "ريفية" غيرت حياة طبيب ببني سويف

تقارير وحوارات



المكان مكتظٌ على آخره، آهات المرضى تترامى إلى مسامعك، أطباء في انتظار تسليم الورديات، أمهات يحملن على أكتافهن أطفالاً يصرخون وجعا، ثم فجأة؛ يتناسى الجميع أوجاعهم وتتجه الأنظار إلى سيدة تحتضن طفلها وهي تهرول بحثاً عن طبيب.


في مشهد موازٍ كان الدكتور محمد حسن، يستعد لمغادرة عيادة مستشفى بني سويف الجامعي، عندما استوقفته السيدة الثلاثينية، على حين غرة، وهي تحمل على يديها طفلها البالغ من العمر عاما واحدا صارخةً "أين طبيب الجراحة ؟".


"عايزة دكتور الجراحة ليه؟"، كلمات توجه بها الدكتور محمد إلى الأم الريفية التي بدا عليها آثار التعب، وهموم الحياة: "عشان يكشف لي ع الواد"، فنهرها: "العيادة خلصت يا ماما ، ماجيتيش من الصبح ليه"، فردت بتلقائية : "ماهي دي المفروض مستشفى، الدكاترة هتروح فين يعني ؟".

 
بدون أن تنطق بكلمة أخرى، صمتت السيدة التي قطعت مئات الأمتار، وسلكت جميع الطرق لكي تصل بطفلها إلى المستشفى بحثا عن علاج يداويه، ولسان حالها يقول: "ماشي بكرة بكرة" ثم حملت وليدها على خصرها كما تعتاد نساء الأرياف.

 
في بداية الأمر، أثار رد السيدة الريفية غضب الطبيب الذي طالبها بضرورة الحضور  في الصباح الباكر؛ لكي تحصل على تذكرة ومن ثم يتم الكشف على نجلها :"كان ردها كفيلا باستثارة حفيظتي واستدعاء كل معاني كراهية الاستهتار بالمواعيد لأخبرها بوضوح أن تحضر  في الصباح الباكر "، متابعا: "صعدت أنا إلى عملي بالقسم مرتاح البال، وبدأت بمباشرة عملي، لا يجب أن يعكر صفو  يومي هذا الرد المستفز من تلك المرأة ، ثمة أمور أكبر تنتظرني كفيلة بتعكير صفو يومي".

 
جاء اليوم الثاني وقبل أن ينتهي الدكتور محمد من عمله بعيادة الجراحة، سمع صوت امرأة تهرول إلى حجرته، وقبل أن يرفع النظر إليها، إذ بها تقول له: "ها جيت لك قبل ما تمشي اهو يا دكتور، ينفع نكشف بقى؟"، ليرد: "جاية ع الآخر بردو" ، لتشتكي إليه من المواصلات :"المهم الواد دا عايزة أكشف له".

 
"قمت بدوري بالكشف على الطفل، الذي بدا أنه سيجلب عليها أياما من الهم والأسى، كان الولد مصابا بسلسلة من العيوب الخلقية التي ستسبب له إعاقات دائمة، وتحتاج إلى 3 أو 4 عمليات جراحية معقدة ستستوجب ربما عشرات الزيارات إلى مستشفى حكومي حتى يمكنها إنجاز الأمر، لم تكن زيارتها الأولى للمستشفى تنبئ بأنها من ذلك النوع الذي سيتحمل هذا، لكن لا بد من أخبارها بالأمر".


بدأ الدكتور محمد في إخبار السيدة الريفية بحقيقة الأمر :"صرت أشرح لها وهى تنظر بنظرة لا يبدو منها التأثر ولا التأفف، لم تكن تزعجها مطلقا فكرة الزيارات ولا المتابعات ولا تعدد العمليات ولا احتمالات الإعاقة كانت تنتظرني أن أنهي كلامي حتى تسأل سؤالا واحدا :"مش انتو هتعملوا لنا الحاجات دى ببلاش يا دكتور، أصله أبوه ميت وأنا لازم اللي أجي بيه وبسيب أخواته في البيت لحد أما ارجع لهم"، وقبل أن تنهي حديثها بدا التأثر على وجه الطبيب، والذي سرعان ما تذكر  كيف نهرها بالأمس ليلوم نفسه على ذلك الموقف، ليرد بنبرة حزن "أيوة يا أمي العمليات هنا ببلاش"، وما إن سمعت كلماته حتى تنفست الصعداء ووعدت بالمتابعة والالتزام.

 
وتابع الطبيب: "كانت مشكلتها الأزلية التي تزعجني منها حضورها المتأخر دائما، ومقابلة العتاب بضحكتها التي كانت تبدو  لي ضحكة بلهاء تصدر من شخص لا يقدر الموقف، لكن كنت أتغاضى عن هذا"، وبفضول سأل الطبيب السيدة عن سبب تأخيرها المعتاد: "أخبرتني ذات يوم في مرور مسائي أنها تتأخر؛ لأنها تخرج من بيتها باكرا وتودع باقي صغارها وتمشي مسافة تتجاوز الكيلومترات حاملة وليدها الذي يلف رجليه حول خصرها حتى تخرج إلى طريق غير ممهد تنتظر أي شيء تركبه وغالبا ما ينتهي بها الحال في سيارة ربع نقل، تقل بعض البهائم أو العمال فتقفز معهم وتخبئ صغيرها تحت خمارها حتى لا يناله غبار الطريق الذي اعتادت رائحته".

 
في البداية كان الطبيب يعامل السيدة على أنها مجرد والدة مريض، تحضر بابنها بحثا عن علاجه، ولكنه لم يكن يعلم أن تلك السيدة ستؤثر في حياته إلى هذا الحد، وذلك بعد أن أخبرته ذات مرة عن زوجها الذي ترك لها ثلاثة أولاد، وصغيرها الذي يعاني من مشاكل خلقية، متابعا: "بعض الناس يصابون بالكآبة حين يفقدون بعض الكماليات الزائدة، والبعض يناضلون للبقاء على قيد الحياة دون أن تفارق شفاههم البسمة، لقد كانت تحمل هذه المرأة كل معاني الرضا في قلبها وتبتسم".


المفاجآت لم تنته عند هذا الحد: "في إحدى زياراتها إليّ والتي تكررت كثيرا في الأيام اللاحقة، طلبت أن تستشيرني في أمر يخصها، وقد أهملته؛ لأنها لم تكن تريد أن تفتح المواضيع الجانبية قبل أن تهتم بطفلها".


"ممكن يا دكتور  أسألك ع حاجة"، على استحياء أخبرته السيدة الريفية بحالتها الصحية، وذلك بعد أن اطمأنت على طفلها والذي أجرى العديد من العمليات الجراحية: "صدري ظهر فيه كلكوعة كدا مطنشاها من زمان بس بتكبر ، ممكن تبص لي عليها لما تفضى ولا نخليها مرة تاني؟"، فرد الطبيب: "لا هبص لك عليها حاضر"، متابعا: "كانت المفاجأة أن كل علامات الفحص تشير أن المرأة مصابة بسرطان الثدي منذ مدة ووصل إلى حجم كبير وهي تساورها الشكوك لكنها تفضل مصلحة طفلها، وتهمل نفسها، وهكذا يضاف إلى قائمة ابتلاءاتها واحد جديد لعله أعظمها".


الطبيب وقد سئم من إخبارها بما يعانيه طفلها، وقد جاء الوقت لكي يخبرها بما تعانيه هي الأخرى، ولعل هذه المرة قد يكون إخبارها أمرًا صعبًا على الطبيب المعالج، نظرا لخطورة مرضها: "قلت لها بعد الفحص هل معك أي مرافقين أو أهل أو زوار ؟ ، أجابت بالنفي وكتر خير الجيران اللي بياخدوا بالهم من عيالي لحد ما أرجع"، مستكملا: "كان لا بد أن أخبرها إذن، طالما أنه لا رفيق، فلا بد من إخبارها، وقد كان".

 
"كنت أقص عليها احتمالية كون الأمر سرطان يستوجب استئصال الثدي والخضوع لجلسات من العلاج الكيماوي والإشعاعي ورحلة من العلاج قد تطول"، كان الطبيب الذي فكر كثيرا قبل أن يخبرها بحقيقة مرضها، ينتظر شيئا ما فور علمها بالأمر، إلا أن رد فعلها كان غير متوقع: انتظرت حتى انتهيت من كلامي وسألت ذات السؤال: "مش بتعملوها هنا مجاني يا دكتور؟"، نظر إليها الطبيب وعلى وجنيته ابتسامة حزينة وهو يردد : "أيوة يا أمي"، لترد: "طيب هارتب مع الجيران بقى وأشوف ممكن آجى إمتى؟".

 
رد الفعل لم يكن متوقعا، مما أصاب الطبيب بدهشة مؤقتة: "هكذا بهذه البساطة ؟، كيف تتقبل الأمور بهذا الهدوء ؟، يبدو أنه ليس من رفيق يشاطرها أحزانها فتكتمها بداخلها، في العادة يرتمي المريض بأحضان مرافقيه ويظهر الجزع، لكن هذه المرأة بلا رفيق، أنهت المرأة إجراءاتها الخاصة بعمليتها، مؤجلة إجراءات وليدها، وخضعت للجراحة وأزالت الثدي".

 
واستمرت السيدة في إدهاش طبيبها المعالج، فبدلا من أن تطمئن على صحتها، راحت تسأل عن موعد خروجها: "في اليوم التالي كانت تستعجلني للذهاب؛ لأن أولادها ربما يبيتون بعض ليالي غيابها دون طعام".

 
على الفور تبادر إلى ذهن الطبيب عدد من الأسئلة التي لم يجد لها تفسيرا: "كيف ستنتقل إلى بيتها في هذه الحالة بهذا الجرح الهائل في جسدها بعد جراحة صعبة، وليدها الذي تحمله على خصرها، تلك المواصلات المزدحمة التي ترتمي فيها فتؤذيها وهي في أتم صحتها، كيف ستنتقل بها في هذه الحالة؟ حين تصل إلى أولادها من أين ستأتي لهم بالطعام؟"، متابعا: "كل الذي كنت أراه في عينيها أن الأيام تمضى وأنه ما من شيء يستحق الجزع !!".

 
"مضت الأيام، وتابعت المرأة الشجاعة رحلتها بين أروقة المستشفيات حتى أتمت خلال شهور  علاجها الكيماوي والإشعاعي، وابتلعتها الأيام وغابت فترة من الزمن، وبعد شهور كنت أمر في إحدى طرقات المستشفى لأجد امرأة نحيلة الجسم شاحبة الوجه، تنادي بابتسامة مثقلة: إزيك يا دكتور محمد ؟، عرفتها من ولدها الذي تحمله بصعوبة على خصرها بطريقتها المعتادة، توقفت ورددت السلام وسألتها عن أحوالها لتخبرني برحلتها المعتادة الشاقة بشكل يومي وأنها نجحت في إنهائها بكرم ربنا".

 
لم يتمالك الطبيب نفسه، فسألها عن سبب تواجدها بالمستشفى: وأنتِ جاية ليه النهارده ؟"، لترد: "كنت عايزة حد في عيادة الجراحة يبص لي ع الجرح مكان العملية؛ لأني حاسة إنه واجعني وإيدي وارمة، بس الدكتور في العيادة قال لي أنت جاية متأخرة ومشي، فقلت خلاص هاجي بكرة بقى وأحاول متأخرش"، وما إن انتهت حتى قال:"احنا نفتح لك العيادة مخصوص وتيجي متأخرة براحتك".

 
القصة تركت تأثيرا واضحا في نفس الدكتور محمد الذي كتب على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، منتقدا التصرف الذي قام به هو في بداية قصته: "ربما ستدور الأيام على زميلي الذي أخبرها بضرورة الحضور غدا في الموعد لتعلمه كما علمتني أن البعض يعيش معنا لكنه في واد آخر ، يناضل في حياته التي لم تترك له مجالا للرفاهية أو الجدل، لو لم يكن مثل تلك المرأة الجسورة جديرا بالاستثناء فمن يكون جديرا به إذن".

 
واختتم الطبيب حديثه مع مريضته: "طمأنتها بعد الكشف، ومازحتها بأنها بتتدلع ومعندهاش حاجة، فابتسمت ابتسامتها المعهودة وقالت الحمد لله، أنا خفت يكون عندي حاجة"، ليسدل الطبيب نهاية قصته بحوار آخر بينه وبين نفسه: "الحقيقة أنت عندك كل حاجة صعبة بس عندك قلب كبير ورضا عظيم، أنت بتمثلي دور البطولة الحقيقية في حياة موازية لا يلتفت لها أحد".