المشاهد الأولى فى الذاكرة كانت فى مدينة الإسكندرية.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (6)

العدد الأسبوعي



أبوشنب يكسب قوته من مسابقات كسر عيدان القصب بعد أن هرب من ثأر فى الصعيد

كنز فى البيت المسكون بالعفاريت ورعب أكثر من بيت يسكنه قاضٍ


المشهد الأول المستقر حفرا ونحتا وعمقا وحبا فى ذاكرتى بتفاصيله الصغيرة قبل الكبيرة مشهد الشارع الذى قضيت فيه سنوات من طفولتى فى مدينة الإسكندرية.

ولدت فى القاهرة لكننى لا أتذكر شيئا من أعوامى الخمسة التى قضيتها فيها قبل أن نرحل عنها إلى الإسكندرية.

شارع هادئ مظلل بأشجار تطرح زهرة صفراء ناعمة نسميها دقن الباشا على ناصيته بائع قصب كنا نسميه أبوشنب عرفت من أبى إنه هارب ثأر فى الصعيد.. كان يقسم عود القصب إلى ثلاث قطع لبيع القطعة بملاليم قليلة كما كان يشرف بنفسه على لعبة يتبارى فيه المتسابقون على كسر أكثر من عود قصب دفعة واحدة على الركبة مرة وأحدة.. والخاسر يدفع ثمن القصب الذى لم يكن سعر عوده ليزيد على نصف قرش.

وغالبية البيوت فى الشارع لها سور من الخضرة وبوابة من الحديد المدبب وحديقة صغيرة يستمتع بها كل السكان فى توافق لم يعد سائدا، رغم أن الحديقة كانت تخصنا نحن سكان الدور الأرضى حسب عقد الإيجار وكان مقابل ثلاثة جنيهات.

ولحمايتنا جئنا بكلب حراسة ارتبطت به عاطفيا وحزنت عليه عندما أجبرنا على تسليمه للجيران عند انتقالنا من الإسكندرية.

وكانت أسعد أيامنا يوم يأتى إلينا جدى لأمى عيد محمد الذى تقاعد بعد أن خدم موظفا فى الجمرك، فقد كان يحشو جيوبه بالملبس والمستيكة (اللبان باللغة السكندرية) وقطع النقود الصغيرة ليوزعها على كل من يصادفه من الصغار وهو ما كان يثير غيظى فقد كنت اعتبر ذلك انتقاصا من حقوقى وعبثا حاولت فى تلك السن فهم معنى المشاركة فيما نملك لكننى لم أستوعبه إلا فيما بعد.

وكانت تخدم جدى امرأة شابة تعيش فى بدروم بيته وتزوجت من بائع خضراوات سكن معها لكنهما لم يهتما بخصوصية ما يحدث بينهما وكنا نتسلل للفرجة عليهما وما أن نراه حتى نسأله بخبث: إزى الولية يا عم حسن؟ فكان يجرى وراءنا بعصا يتوكأ عليها.

وذات ليلة راحت المرأة تصرخ وتستغيث بجدى مكررة أكثر من مرة الحقنى يا سى عيد فقام جدى من فراشه متصورا أنها تتعرض لمكروه ولكن ما أن دخل الغرفة عليها حتى وجدها عارية فى حالة نشوة فضربها بعصاه من شدة الغيظ دون أن يفهم لما استغاثت به فى تلك اللحظات؟

فى طرف الشارع بيت مهجور كنا نؤمن بأنه مسكون بالعفاريت فلم نكن نرى أحدا من سكانه وذات صباح وجدنا باب الحديقة مفتوحا والممر المؤدى إلى البيت مفروشا بـ«بواقى الترام» مختلطة بمياه المسح وعلى وشك الجفاف.. وبواقى الترام أوراق فى حجم تذكرة الترام قيمتها مليمان يأخذها الراكب الذى يدفع قرشا باقى ثمن التذكرة التى كان ثمنها ثمانية مليمات وكانت تلك البواقى تستخدم فى ركوب الترام أيضا فهى عملة مقبولة الدفع كنا نشترى بها الحلوى ونؤجر بها الدراجات لذلك كان وجودها بوفرة فى بيت العفاريت كنزا يصعب مقاومته.

توقفنا أمام تلك الثروة المبهرة أنا وصديقى وجارى وزميلى فى المدرسة الابتدائية محمود حمدى وفى داخل كل منا السؤال نفسه: كيف نحصل عليها دون أن تخطفنا العفاريت التى تسكن البيت؟.. بعد دقائق من الصمت عبرنا بوابة البيت وأخذنا بسرعة بعضا منها وخرجنا بنفس السرعة لنحصى ما جمعنا لكن الحصيلة لم ترضنا فكررنا المحاولة بعد أن دخلنا إلى مسافة أبعد ورجعنا بسرعة أعلى.. كررنا ذلك أربع مرات دون أن تظهر لنا العفاريت بل واقتربنا أكثر من الباب الداخلى للبيت على أننا ما كدنا ننتهى حتى وجدنا أمامنا شبحا لم نتعرف عليه من شدة الخوف على ملامحه وجرينا هاربين بكل ما أوتينا من قوة دون الاهتمام بالثروة التى وقعت منا بعد أن حصلنا عليها.

ظللنا نجرى دون أن نلتفت وراءنا حتى وصلنا إلى المدرسة لنعاقب على التأخير لكننا لم نقاوم بعد أن شعرنا بالأمان.

تحاشينا الاقتراب من ذلك البيت لكن سرعان ما سيطر علينا فضول الصغار، فعدنا نتمسح فى أسواره وذات مرة وجدنا سيدة تغطى وجهها بحجاب وتقف على بابه الداخلى وتشير إلينا بالاقتراب لكننا لم نقترب بل ابتعدنا أكثر فلا بد أنها عفريت متنكر يخدعنا بحجابه.

لكن السيدة المحجبة أخذت الثروة التى فرت من أيدينا من قبل ووضعتها أمام الباب الخارجى عند مسافة تجعلنا نأخذها دون خوف من الإمساك بنا.

تكرر المشهد أكثر من مرة.. بل أضافت السيدة المحجبة إلى بواقى الترام نقودا حقيقية صغيرة وكثيرا ما وجدنا قطعا من الشيكولاتة والعسلية.. ولا بد أن ذلك طمأننا كما اقتنعنا بأن العفاريت لو أرادت أذيتنا فإنها ستصل إلى فراشنا.. أو تخطفنا من فصولنا. أو تتربص بنا فى الشارع ونحن نلعب فهى فى خيالنا قادرة على كل شىء.

ولا أتذكر اللحظة التى وجدنا أنفسنا فيها نقبل بدعوة تلك السيدة لنجلس معها فى حديقة بيتها.. وأمام أطباق الحلوى والفاكهة عرفنا أنها فقدت ابنها الوحيد فى حريق شب بالبيت وعندما حاولت إنقاذه طالت النيران رقبتها فغطتها بالحجاب وتوارت عن الأنظار لكننا على ما يبدو أعدنا إليها الحنان الذى فقدته بغياب ابنها فتوددت إلينا وسعدنا بها.

لم نعد نخاف من بيت العفاريت بعد حل لغزه لكننا لم نستطع حل اللغز الأصعب.. لغز الرجل الممتلئ الوقور الصامت الأنيق الذى لا يكلم أحدًا ولا يلقى السلام على أحد ويدخل بيته فى هدوء ويخرج فى هدوء ورحنا نجلس أمام بيته لعلنا نتوصل إلى شىء على أننا لم نجد سوى نوافذ مغلقة لا تفتح أبدًا يتسلل من خلفها ضوء خافت لا يكشف عما فى داخلها.. من هذا الرجل الذى يتجمد كل من فى الشارع إذا ما مر عليه؟.. وعرفت الإجابة من خالى فتحى عيد: إنه قاض يحاكم المجرمين الذين يضرون بالناس ويسجنهم إذا ما أخطأوا.

وتضاعف خوفى منه وحذرت محمود ليبتعد عنه حتى لا يسجننا.

لم يكن سلوك ذلك القاضى غريبا وإنما كان السلوك الطبيعى المعتاد للقضاة فى ذلك الوقت.. العزلة عن الناس وترك مسافة بينه وبينهم حتى يكون محايدا إذا ما وقفوا أمامه فى قضية ينظرها.. وبسببه كبرت على احترام القضاة ولو كانوا فى سن أبنائى وإن أصبح بعضهم صديقا لى فيما بعد.

وفى البيت المواجه لبيتنا كانت تسكن امرأة قعيدة تضع على رأسها دائما طرحة بيضاء وأمامها فنجان قهوة وينادونها الشيخة رزقة، أما وظيفتها فكانت قراءة الطالع بالفنجان والكف والكوتشينة وعرفت من خالى الصغير محمد الذى كان صديقا لواحدة من بناتها أنها كانت تذهب إلى الملك فاروق فى سرايا المنتزه وأنها أول من بشرته بميلاد ولى العهد ابنه أحمد فؤاد الثانى من الملكة ناريمان فمنحها سبحة من الذهب تنتهى بمحبس من الماس لكنها قررت ألا تراه بعد ذلك اليوم فقد توقعت على ما يبدو مصيره.. السقوط من على عرش مصر والموت بعيدا فى الغربة.

أكلنى الفضول للصعود إليها واكتشاف ما تفعل لكننى لم أجد شيئا غير عادى إلا بناتها الثلاث اللاتى كن رائعات الجمال وتصورت أن السبب فيما يتمتعن به من فتنة قدرة أمهن على السحر لكن فيما بعد عرفت أن الأب كان ضابطا فى الجيش الإنجليزى تزوج الأم قبل أن تفقد ساقيها فى حادث سيارة وأنجبت منه بناتها قبل أن يعود إلى بلاده وتنقطع أخباره.

كان الشارع ملعبنا وكان علينا اختراع ألعابنا.. كرة شراب.. خنجر نحصل عليه بوضع مسمار طويل على قضيب قطار بضاعة قريب ليمر عليه حتى يصبح سلاحا حادا مدببا.. وطائرات ورقية برع أخى الأكبر إبراهيم فى صناعتها من البوص الرقيق والخيط المقوى بالشمع والورق الملون الخفيف والمثير للدهشة، إنه فيما بعد تخصص فى دراسة هندسة الطيران فى أول دفعة تخرجت فى هندسة القاهرة عام 1968 وإن فرضت عليه الحياة أن يتخصص فى تكنولوجيا السيارات المتطورة بعد أن قضى فى القوات الجوية ثمانى سنوات شهد خلالها حرب أكتوبر.

كانت صناعة الطائرات الورقية تحتاج ميزاناً دقيقاً وخيطا متينا وبراعة فى المناورة لأنها كانت تشترك فى حرب يسعى كل من يمتلك واحدة منها إلى الاشتباك مع غيرها وسحبها إليه أو قطعها لتسقط بعيدا وكان الأكثر خبرة فى تلك الحروب جارنا الطالب فى كلية التجارة الذى يسمونه «فيكا» ولم نهتم بمعرفة اسمه الحقيقى وعندما قرر أخى إبراهيم الاشتراك فى واحدة من تلك الحروب رحت أنا ومحمود نفكر فى كيفية مساعدته لينتصر على فيكا وأوصلنا تفكيرنا الشرير إلى الصعود إلى جدار سطح البيت المبنى بنصف طوبة لنرقد عليه حتى نمسك فى الوقت المناسب بخيط طائرة فيكا ونقطعه فيخسر المعركة قبل أن تبدأ.. وهو ما حدث فعلا وإن كان من الممكن أن نلقى حتفينا بالسقوط عند أقل حركة غير محسوبة.

والحقيقة أننى كنت أستمتع بتلك المغامرات القاتلة دون أن أفكر فى أخطارها إنها لذة الصغار فى اكتشاف ما ينهاهم عنه الكبار.

ألقيت بنفسى من مكان مرتفع لأعرف شعور الارتطام ووضعت يدى فى الكهرباء لأعرف شعور الصعق ودخنت بقايا سيجارة لأعرف سر السعال وتقمصت شخصية طبيب للكشف على البنات تحت بئر السلم لأعرف الفرق بيننا وبينهن.

وغالبا ما كانت المغامرة تنتهى بشدة أذن قاسية من أمى وتهديد لم تنفذه بالحرمان من المصروف والشكوى إلى أبى ولكن جدتى لأبى مبروكة كانت دائمة الدفاع عنى وعرفت من أمى فيما بعد أنها كانت تقول: سيبوه إنه صبى غير عادى لا تقتلوا رغبته فى التعبير عن نفسه.

أما أبى فكان قليل الكلام.. إذا ما وجد نفسه فى مجلس يستمع فيه إلى ما لا يحب نهض وتركه دون استئذان وكان عمله فى القطاع الهندسى بإدارة الأشغال العسكرية يجبره على إطاعة أوامر رؤسائه من الضباط الكبار رغم أنه مدنى وكثيرا ما كاد يفقد وظيفته المناسبة بسبب اختلافه فنيا دون أن يقدر على تغيير الأمر. هداه تفكيره إلى قبول العمل فى مناطق نائية ليكون سيد نفسه فسمعنا ونحن صغار عن أماكن فى مصر ذهب إليها وخدم فيها لا أتصور أن أحدا فى سنى وقتها سمع عنها وقتها: العلمين والضبعة ورأس الحكمة والطور مثلاً.

ويفسر ذلك تنوع المدن التى ولدنا فيها أنا وأخوتى.. إبراهيم ولد فى الإسماعيلية وعفاف ونعيمة وفهيمة ولدن فى الإسكندرية وأنا ومجدى ولدنا فى القاهرة وأصغرنا مدحت ولد فى أسوان.

وأتاح تعدد التنقل لى صغيرا أن أعرف الكثير عن مناطق متنوعة فى مصر مبكرا ولست مدعيا لو قلت إن عشق الوطن بدأ معى منذ الطفولة فقد لمسته وعاشرته وتعرفت عليه عن قرب.

فى كل مرة كان ينتقل فيها أبى إلى مكان مختلف كنا نلحق به بعد أن يوفر لنا سبل الحياة من سكن وأثاث ومدارس فلم يكن أبى ممن يعيشون بمفردهم وإيمانه بالعائلة جعله لا يطيق البعاد عنها.

على أننى كنت أشعر بحرية أكبر فى غيابه وصلت إلى حد إصابة محروس بحجر فأصاب جرحا قديما فوق عينيه أسال الدم حتى غطى وجهه ليبدو الحادث أكبر من حقيقته.. ومحروس صبى ميكانيكى والده يعمل فى بقالة وأمه لا تكف عن مشاكسة كل من يمر بالبدروم الذى يسكنون فيه وقد خطف محروس طائرة ورقية يصنعها شقيقى فكان ما كان.

وجدت أم محروس نفسها فيما حدث فراحت تصرخ بأعلى صوتها دون أن تنسى رفع ثيابها والكشف عن ساقيها ولم تتردد فى أن تمسك بخناق زوجها حتى يحرر لى محضرا فى قسم البوليس.

جاء شرطى إلى بيتنا يستدعينى للتحقيق دون أن يتصور أن الصبى الصغير الذى فتح له الباب هو المتهم ولم يصدق ضابط القسم أيضا أننى يمكن أن اصرع محروس الأطول والأعرض والأكبر منى قائلا فى دهشة: ده ضرب ده؟ وشعرت أم المجنى عليه بأنها هزمت قبل فتح المحضر وكان عندها حق فالمظاهر الخارجية تتحكم فى تقديراتنا وقراراتنا الرسمية.

لم أكذب فى رواية ما حدث وبينما الضابط يستكمل المحضر رحت افتش ببصرى عن السجن متصورا أنه فى القسم الذى غادرته بعد أن حرروا لى مذكرة دون أن أعرف معنى مذكرة إلا فيما بعد عندما وجدت نفسى متهما فى قضايا نشر لا حدود لها.

وكان الحل المناسب لتحجيم شقاوتى أن أدخل مدرسة أهلية قبل سن الإلزام واصطحبتنى خالتى الصغرى (وكنا ندللها باسم قلش) إلى مكان يصعب تصنيفه ودفعت لهم خمسين قرشا مصاريف تسجيل على أن تسدد شهريا عشرين قرشا. وذات صباح حاولت البقاء فى البيت بعد أن اجبرتنى أمى على ارتداء معطف من الفراء الصناعى لونه بمبى وملحق به غطاء رأس (كابيشو) جاء به خالى الأصغر المجند فى البحرية من رحلة بيخت المحروسة كان على متنه جمال عبد الناصر وكان سبب رفضى للمعطف أننى تصورت أنه لا يصلح إلا للبنات. لكن محاولتى لم تفلح فالجو كان شديد البرودة والشمس غائمة والمطر يهدد بالسقوط وخرجت من البيت والدموع فى عينى والخجل مما أرتدى يملأنى وما إن دخلت المدرسة ووجدت صديقتى السمراء سعاد حتى خلعت المعطف وقدمته إليها هدية فلم تعترض.

وفور عودتى إلى البيت حاولت الدخول إلى الغرفة التى أنام فيها أنا وأخى الأكبر مسرعا حتى لا ترانى أمى لكنها استوقفتنى غاضبة وانهمرت الأسئلة كالحجارة فوق رأسى عن مصير المعطف لكننى لزمت الصمت تماما.

على أن وقت لم يمر حتى ضرب جرس الباب ووجدنا سعاد وأمها تدخلان علينا والبالطو معها.. لم تستوعب أمها أن تأتى ابنتها بمعطف وتقول لها: إن زميلها تركه لها فجاءت تتحقق مما سمعت.

منذ ذلك الوقت ظلت سعاد صديقة يصعب الاستغناء عنها.. لقد بقيت فى الإسكندرية.. ودرست الطب النفسى وحصلت على الدكتوراه وتزوجت من زميل لها لكنه توفى فى حادث طائرة وهو متجه من نيودلهى إلى دبى وترك لها ثلاثة أبناء هاجروا إلى كندا عندما كبروا وتركوها وحدها فعوضت غيابهم بخدمة الفقراء فى الأحياء المتواضعة والعشوائية.

إن هذه العلاقة الإنسانية الراقية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الصداقة بين الرجل والمرأة ممكنة لو نظفنا عقولنا وضمائرنا من الشوائب العالقة بها تجاه الجنس الآخر.