عادل حمودة يكتب: مصر ستشرب من البحر بعد تراجع المياه فى النهر

مقالات الرأي



موارد مصر من المياه لم تزد رغم زيادة السكان من 10 ملايين إلى 100 مليون نسمة

محطات تحلية المياه انقلاب حضارى يغير خريطة مصر السكانية والاقتصادية ويخلق مجتمعات جديدة بعيدًا عن شريط النهر الضيق

قلت علنًا فى نهاية العام الماضى: تغيير نظام الرى من «الغمر» إلى «البخ» مشروع قومى يجب البدء فيه فورًا


لم تعد جملة «أشرب من البحر» تثير السخرية فنحن بالفعل سنشرب من البحر.

تعانى مصر من عجز مائى لا يقل عن سبعة مليارات متر مكعب سنويا.. وعاما بعد عام يتزايد العجز بسبب الانفجار السكانى المجنون الذى يضخ لنا مليونى ونصف المليون مولود فى العام.. وبسبب تخلف نظام الرى بالغمر الذى لم يتغير كثيرًا منذ عصر ما قبل التاريخ.

وحسب إحصائيات وزير الرى الدكتور محمد عبد العاطى أمام مجلس النواب، فإننا نحتاج 114 مليار متر مكعب من المياه سنويا لا يتاح لنا منها سوى 60 مليار متر مكعب فقط.. يأتى لنا النهر بنحو 55 مليارا وتضيف إلينا الأمطار خمسة مليارات أخرى.

وتعوض مصر العجز باستيراد محاصيل من الخارج تحتاج 34 مليار متر مكعب من المياه لو زرعت على أرضها بجانب إعادة استخدام مياه الصرف بعد تنقيتها بما يتيح 20 مليار متر مكعب سنويا.

والمؤلم أن كمية المياه التى نستهلكها وعدد السكان 100 مليون هى نفس الكمية التى كنا نستهلكها وعدد السكان عشرة ملايين نسمة مما يعنى أن نصيب الفرد تجاوز الخطوط الحمراء للشح المائى ليصبح أقل 15 مرة من نصيب المواطن الأمريكى، رغم الإسراف والإهدار وسوء التصرف فى استخدام المياه.

وجاءت مشكلة السدود فى دول المنبع لتزيد معاناتنا المائية فغالبية الدراسات الأكاديمية تؤكد أنه سيخفض منسوب نهر النيل بنسبة 25% تقريبا.

فى عام 2008 حذرت من مشكلة بناء سد الألفية الكبير (أو سد النهضة كما سمى فيما بعد) وسافرت إلى منبع النيل الأزرق فى منطقة بحر دار على بعد 578 كيلومترا من أديس أبابا وسجلت رحلتى فى كتاب «ثرثرة أخرى فوق النيل» لكن عمر سليمان (مدير المخابرات وقتها) طمأننى بأن السد لن يبنى وستساعد مصر إثيوبيا فى حل مشكلة الكهرباء التى تعانى منها بدفع أكثر من دولة أوروبية إلى بناء محطات نووية تنتجها على أرضها.

على أن حالة الاضطراب السياسى الهائل التى عاشتها مصر بعد ثورة يناير (2011) سمحت للسلطات الإثيوبية بالبدء فى بناء السد بخطوات سريعة جعلت منه أمرا واقعا ولم يكن أمامنا سوى التعامل معه بحكمة للتخفيف من أضراره بقدر ما نستطيع.

وبنفس الواقعية التى عولج بها ذلك الملف أدركت مصر بأن مشكلة المياه التى ظهرت أعراضها منذ عشر سنوات تقريبا تحتاج إلى خطة قومية متكاملة لتجاوزها وإلا فقدت أمنها المائى فى عام 2525 بما يهدد استقرارها السياسى.

أوقفت الحكومة تراخيص شركات تعبئة المياه الجوفية فى زجاجات فلن يزيد عددها على 18 شركة، كما أنها ستراقب مدى التزامها بالشروط الصحية وتغلق المخالف منها كما حدث فى عام 2013.

وخفضت الحكومة من مساحة زراعة الأرز من مليون و100 ألف فدان إلى 724 و200 فدان وتفكر فى التفاوض مع إثيوبيا لدفع ثمن ما سنستورده من أرز لسد الفجوة فى استهلاكه خلال سنوات ملء السد هناك.

وقررت الحكومة زراعة أنواع من الذرة والقمح والفول والأرز موفرة للمياه ولن تتردد فى تجميع مياه الأمطار على ندرتها.

والأهم ترتيب حملة توعية لترشيد استهلاك المياه تتكلف 900 مليار جنيه وتستمر 20 سنة تنطلق فى المساجد والمدارس ومراكز الشباب والهيئات الحكومية بجانب وسائل الميديا المختلفة.

لكننا حتى الآن لم نجد إشارة توعية واحدة فى خطبة جمعة أو فى موضوع إنشاء أو إعلان تليفزيونى أو ملصق على جدار أو أغنية فى إذاعة أو رسالة على موبايل.

إن غسل السيارات ورى الحدائق ورش الشوارع بمياه الشرب جريمة.. وغسل الوجه وحلاقة اللحية والحنفيات مفتوحة على آخرها جريمة.. وتلويث مياه النيل بمياه الصرف الصحى والاعتداء عليه جريمة.. كلها جرائم ضد الحياة.. فقطرة المياه تفرق بين البقاء والفناء.

وهناك ظاهرة ننفرد بها فى مصر.. تسرب المياه إلى نسبة فادحة من المبانى مما يشوهها ويهددها، أما السبب فهو استخدام معدات سباكة رديئة تهدر المياه بلا مبرر وتنقص من أعمار العقارات وتفرض على المدن عمارات قبيحة.

ولا تستثنى هذه الظاهرة المبانى التى تبنيها الحكومة أو تسكنها أو تبيعها فلم يأت حتى الآن وزير للإسكان يعالجها أو يخفف منها وكأن السباكة معجزة علمية فى زمن تدخل فيه مصر عصر المفاعلات النووية.

إن حصتنا من النهر لم تعد تكفى ربع السكان.. وتناقص المياه سيقلل من مساحة الأراضى الزراعية إلا إذا تحولنا من الرى بالغمر إلى الرى بالتنقيط أو الرى بالبخ حيث يحصل النبات على ما يحتاج من مياه وأسمدة وبنسبة تقل عن 90% مما يحصل عليه بالغمر ودون إرهاق الأرض وهو ما جعلنى أقترح فى حوار نهاية العام الماضى مع لميس الحديدى أن يكون هذا التحول بمثابة مشروع قومى يدخل الحكومة التى تنفذه التاريخ من أوسع أبوابه.

لكن الحكومة على ما يبدو قررت مواجهة المشكلة بالتوسع فى بناء محطات معالجة المياه أكثر من مرة وبناء محطات تحلية المياه المالحة لنشرب من البحر بعد أن كنا نعتبر ذلك أمرا مستحيلا يثير السخرية.

لقد قامت مدينة سياحية شهيرة مثل شرم الشيخ على محطات تحلية المياه.. أنشأ حسين سالم أولاها فى خليج نعمة.. وثانيتها فى حى النور.. وأنشأت الدكتورة نادية الراهب ثالثتها فى منطقة الهضبة بجانب محطات خاصة أنشأتها الفنادق الكبرى والقرى السياحية الشهيرة لتوفير حاجتها من المياه.

ونستورد هذه المحطات غالبا من ألمانيا ولم يكن سعر الطراز الصغير منها يزيد على 650 ألف دولار بما فى ذلك آبار المياه ومضخات الدفع ومواسير التوصيل لإنتاج ألف متر مكعب فى اليوم وهى كمية متواضعة لا تكفى قرية سياحية أكثر من يومين.

وبارتفاع سعر الدولار زادت تكلفة المحطة ثلاثة أضعاف وبزيادة سعر الكهرباء وأجور التشغيل ارتفع سعر المتر المكعب للمستهلك من عشرة إلى عشرين جنيها ويمكن للفنادق والقرى السياحية ذات العائد المناسب تحمل التكلفة بإضافتها إلى فاتورة الزبون.

ولا شك أن التكلفة ستقل فى المحطات الكبيرة التى ستقيمها الحكومة.. ولكن.. يظل إنتاج المتر المكعب مرتفعا لمستخدمى المياه فى الزراعة إلا إذا كان أسلوب الرى حديثا موفرا.. والمحصول مغرٍ ومجزٍ.

حسب ما سمعنا فإن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة نفذت محطات تحلية فى الضبعة ومطروح تنقى 100 ألف متر مكعب من مياه البحر فى اليوم بجانب محطات فى جنوب سيناء تنقى الواحدة منها 20 ألف متر مكعب يوميا.

وتحت الإنشاء ما وصفت بأكبر محطة تحلية فى العالم بالقرب من بحر العين السخنة لتنقية 164 ألف متر مكعب يوميا يضاف إليها محطات أخرى فى الجلالة وشرق بورسعيد والعلمين الجديدة بطاقة 150 ألف متر مكعب يوميا.

وتفرض هذه المحطات شروطا بيئية صارمة تجبر مستخدميها على عدم إلقاء فضلاتها الملحية العالية فى البحر حتى لا تموت الأسماك والكائنات البحرية فنفقد مصدرا مؤثرا للغذاء ونصيب محبى رياضة الغوص بالاكتئاب.

وواضح أن انتشار هذه المحطات فى مناطق صحراوية خالية تقريبا من البشر والحياة سيخلق مجتمعات عمرانية جديدة تغرى بالهجرة الداخلية إليها مما يخفف من الكثافة السكانية العالية فى الشريط الأخضر الضيق الملاصق للنيل الذى انفجر بما فيه وأدى إلى تراجع مساحة الرقعة الزراعية لبناء المساكن عليها رغم القوانين الصارمة التى تجرم ذلك.

لقد أثبتت صور الأقمار الصناعية التى التقطت فى عام 2015 تراجع مساحة الأراضى الزراعية فى الدلتا بنحو 43% بسبب الزحف العمرانى العشوائى عليها بزيادة لا تقل 23% سنويا، فالأجيال الجديدة فى حاجة إلى سكن تستقل فيه وليس أمامها سوى البناء على أرض تنتج الغذاء لكن ما باليد حيلة، فالحصول على رغيف عيش يطعمه أسهل من الحصول على جدران تأويه.

إن إنشاء محطات تحلية البحر انقلاب حضارى يتجاوز علاج مشكلة نقص المياه إلى رسم خريطة اقتصادية وبشرية جديدة لمصر لو أخذنا الأمور بهدوء وجدية وتصرفنا بحكمة ونفس طويل وشرحنا للناس ما يجرى على أرض مصر وطالبناهم بالمشاركة فكرا وتنفيذا، فالوطن شركة مساهمة يديرها نظام الحكم بعد موافقة حملة الأسهم.