مفيد فوزي يكتب: اسمع الكلام يا ولد!

الفجر الفني



أخاف على البلد حين تجرفنا السياسة بعواصفها فتطح بقيم البيت وتحولنا إلى "زعماء" نهوى التنظير والسير فى المواكب، وقد نتصرف بانتهازية ونتقن فن التحول وأحياناً نقع فريسة لأفكار براقة باطنها غير ظاهرها، فى جيلى، كانت السياسة لغة الكبار أما نحن فكنا نتعلم فى المدارس كيف نفكر، وكان كل تلميذ ينتمى لجمعية فى النشاط المدرسى يمارس فيها هوايته ويشبع رغبته، كانت المدرسة- فى زمانى- مدرسة بحق وحقيق وللمدرس هيبة واحترام وكنا نسمع الكلام سواء فى المدرسة أو فى البيت. 

كان أبى «دقة قديمة» يعاقبنى بالنظرة، فيرمقنى بتلك النظرة وبعدها إذا تكرر الخطأ فلا حل عنده سوى الضرب!. 

كان يقول إن الكبار تربوا بالضرب والضرب أسلوب عقاب تربوى. وحين قرأ لى أبى سطوراً كتبتها على استحياء أقول فيها إن الضرب «عقاب غير آدمى» وكنت أتعرض لواقعة ضرب حدثت لى من مدرس اللغة الفرنسية حسين أفندى سليم الذى كان «يؤدبنا» بالمسطرة على أصابعنا إذا أخطأنا، وقلت يومها إنى كرهت اللغة الفرنسية منهجاً ومدرساً، قال لى أبى بثقته الشديدة «إللى ما نضربش ما تعلمش»، قالها كأنها قاعدة لا تقبل الجدل!. 

وقد تعلمت ابنتى دون أن أضربها ولكنى مارست دور الأب معها مرة واحدة حين وضعت أصابعها فى فيشة الكهرباء، ويومها انهلت عليها ضربا بحزام جلد خوفاً عليها وكانت حنان بعد طفلة وربما أرادت بفضول مبكر- ورثته عنى- أن تكتشف وتستكشف العالم من حولها! ومن يومها لم تقترب حنان من أى شىء له صلة بالكهرباء!.

أتذكر حين سافرت ألمانيا مبكراً فى فجر مشوارى الصحفى، ورغبت فى زيارة مدرسة، دبر لى صديق مقيم فى ألمانيا هذه الزيارة وعرفت لأول مرة أن المدرسة الألمانى تعاقب تلاميذها بالضرب وعدت مرة أخرى أفكر فى جدوى الضرب كأسلوب تعليم أو تربية، ولا تزال القضية مطروحة، فالمدرسون القدامى يؤمنون بالضرب أسلوب عقاب ويقتصر الضرب على المؤخرة فقط أما صفع التلميذ على وجهه فهذا مرفوض تماماً لأن آثاره النفسية مؤلمة وكل من يتصدى الآن للعقاب فى المدرسة يرفض علنا فكرة الضرب وإن كان مؤمنا بها فى قراره نفسه منطلقاً من فكرة أن العقاب البدنى أجدى تربوياً.

أمور أولادنا مجهولة بالنسبة لنا نحن الآباء، وبعض الآباء لا يعرفون ماذا يتعلم أولادهم، ولا فى أى المدارس، وقد تعرف الأم العظيمة المتعلمة ولكن الأب- كممول- يلتزم فى المواعيد المقررة بدفع المصاريف، ومنذ تحول الآباء إلى ممولين باتوا لا يعلمون شيئاً عن أولادهم وبناتهم ولم يحضروا مرة واحدة اجتماع «الآباء» فى المدرسة وانقطعت الصلة بين المدرسة و.. البيت، معظم الآباء يجهل كل شىء عن الأولاد: لا يعرف من هم أصدقاؤه ومع من يسهر وأين يبيت إذا اضطر للمذاكرة عند صديق، وهل يدخن أم لا وكيف ينفق مصروفه وما علاقته بالمخدرات إذ لوحظ أن أنواعاً جديدة من المخدرات قد ظهر فى السوق ورخيصة الثمن ويتولى بيعها طالب فاشل مفصول، والأولاد الآن تغيرت أحوالهم عن جيل مضى، كان إذا غضب أبى أو المدرس صاح وماج وقال «اسمع الكلام يا ولد»، اليوم لا يستطيع الأب أن يصرخ فى وجه «المحروس» اسمع الكلام يا ولد، وربما يفاجأ بابنه يستقبل هذا التهديد بالضحك!. 

إن «الديمقراطية الجديدة» فى البيت قد قلبت الأوضاع تماماً فبعض الأبناء ينادون الأب باسمه مجرداً كأنه صديق قديم، وعندما كانت ابنتى حنان طفلة فى رحلة مدرسية بأسوان، كنت أتصل بمدير مصر للطيران فى أسوان لأسأله عن ابنتى وأطمئن عليها وقد قالت المدرسة المشرفة على الرحلة لابنتى «هو الوالد فاكر الرحلة فى غابات الأمازون؟» وكانت حنان تقول لى إن لا أحد من أولياء الأمور يقلق هكذا سواك، ولم أخجل من قلقى الصحى ولكن آباء الزمن الحديث كل منهم «يشترى دماغه» كما يقول المثل ولا يقلق وربما أضاع أغلب الوقت على الفيس بوك منكفئاً بالساعات الطويلة مع عالم افتراضى يسرق الوقت.

انفعل د. طارق شوقى وزير التربية والتعليم حيث نقل «نشأت حمدى» الصحفى تصريحاً على لسانه يقول «الأهالى على فيس بوك، طيب مين بيربى العيال؟». وقال د. طارق: إن السبب فى وقوع مشكلات كبيرة فى العملية التعليمية هو عدم اهتمام الأسرة بتربية أبنائهم منذ الصغر» فالأهالى يجلسون 24 ساعة على الفيس بوك ومن هنا «انعدمت الرقابة والمتابعة» فجاءت ظواهر مجتمعية كالتحرش والبلطجة والصوت العالى و.. الغش!.

 ما يقوله الوزير خطير لأن البيت انفصل عن المدرسة. فى جيلى كانت المدرسة «متعاونة» مع البيت كان ممكنا أن يهمس الأب فى أذن الناظر «راقبوا تصرفات ابنى» وتكتشف العيادة النفسية أن الولد معقد عائلياً، كان اجتماع الآباء فى المدرسة مرة كل شهر مثمراً، كان البيت والمدرسة على «موجة تفاهم واحدة». 

اليوم، الأهالى على سفر أو على صفحات فيس بوك والأولاد بلا بوصلة، ومنذ الثورة الينايرية حدث «تضخم» غير مقصود لذات الشباب فزالت رهبة الأب واضمحل توقير الكبير وانعدمت «سلطة الأب» لم تعد «الأبوة» قائمة، من الممكن أن يقول الابن لوالده «كبر دماغك يا والدى»، مثل هذه العبارة لو نطقتها لأبى لصفعنى بقسوة تذهب بحاسة السمع عندى.

لم يعد من السهل أن تنهر أحدا من شباب هذا الزمن أو توجه له نقداً، لم يعد ممكناً أن تصيح فيه «اسمع الكلام يا ولد». تضخمت الذات عند شبابنا إلى درجة لافتة للنظر، صار لديه شعور يرفض «النصيحة الأبوية» وأصبحت «دماغه تحكمه»، من هنا تحدث فى البيوت خلافات حادة فى التربية أو من هنا «لا يحظى» المدرس فى المدرسة بالاحترام المطلوب انطلاقاً من خفوت النبرة الأبوية. 

فى اليابان، التلميذ اليابانى يخضع داخل البيت اليابانى لطقوس يابانية حادة حيث لا تزال «الطبقية» سائدة، فالابن الصغير يسمع كلام شقيقه الكبير والابن الكبير يحترم ويوقر الكبير فى صورة الأب أو المدرس أو الكهل، ولكن التلميذ اليابانى انفتح على العالم وربما «تأمرك» وحين حدث صدام بين طقوس البيت اليابانى المحافظة والتأمرك حدثت انفجارات وحوادث انتحار.

هذا المقال، أنبه فيه إلى ضرورة الدخول إلى البيت وتذويب الانفصال بين أفراد الأسرة الواحدة وإعادة توزيع الأدوار الطبيعية فالأب أب والابن ابن والأم أم والابنة ابنة والشغالة عالمها المطبخ

أريد «حقن» البيت المصرى بالسلوكيات التى درج عليها وتربى الكبار، أريد تحديد المثل الأعلى الذى لم يعد حاضراً.

باختصار، لا تأخذنا السياسة إلى عالمها وأطيافها ونترك البيت المصرى غارقاً فى موجات عبثية وتضل المدرسة طريقها إلى «بيت متعاون»، أنا مهموم بعودة الدفء للعلاقات الأسرية بعد موجات صقيع من توحش الوحدة مع الفيس بوك وتضخم ذات أولادنا ومأزق المدرس المصرى فى مدرسة يبحث فيها عن احترام مفقود.