حاورت مفجر ثورة الشباب فى أوروبا فاتهمتنى "روزاليوسف" بالعمالة للمخابرات الأمريكية.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (4)

العدد الأسبوعي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة


عقدة الأمن سيطرت على التنظيمات اليسارية وتبادل أعضاؤها اتهامات التنصت لحساب الأجهزة أطلقت الشرطة الرصاص على المتظاهرين ضد الأحكام الهزيلة لقادة الهزيمة فتغير حلمى من الحكومة إلى الحرية

العلاقة بين الصحافة والسلطة ولو كانت ديمقراطية علاقة احتياج متبادل لا تخلو من الكراهية تعلمت الدرس الصحفى الأول من صلاح حافظ: لا يكفى أن تكون على حق المهم أن تكون قادرا على إقناع الناس به


لم تمر التظاهرات التى اشتعلت فى الجامعة احتجاجا على التهاون مع جنرالات هزيمة يونيو بخير.. خرجنا نطالب بالإفراج عن الطلاب المعتقلين فوجدنا قوات الأمن فى انتظارنا.. أطلقت قنابل مسيلة للدموع ولحقتها بطلقات عشوائية من الرصاص القاتل.. فى مشاهد دامية لا تنسى.

فررنا مثل فئران مذعورة إلى حديقة الأورمان القريبة من الجامعة نتسلق أشجارها ليحظى كل منا بنصيبه من العقاب.. من نجا من الرصاص لم ينج من الهروات.. ومن نجا من الهروات لم ينج من قنابل الغاز.. ودمعت قلوبنا قبل عيوننا.. وتألمت مشاعرنا قبل أجسادنا.

فى ذلك اليوم الحزين عدت من جامعة القاهرة فى الجيزة إلى بيتى فى حى العباسية مشيا.. كنت مصدوما مذهولا فلم أشعر بطول الطريق.. وعجزت عن الإجابة على الأسئلة التى تفجرت فى رأسى.. كيف يضرب عبد الناصر أبناءه؟.. كيف يبطش بنا ونحن نؤمن به؟.. ألم يكن أولى بالرصاصات التى أطلقت علينا أن توجه إلى العدو الإسرائيلى المسترخى فى سيناء يستمتع بالاستحمام فى مياه القناة وهو يخرج لسانه لنا؟.

وجدت نفسى فى حالة غربة مع النظام.. غضبت منه.. وثُرت على الناس التى انصرفت إلى تناول الفول وتدخين المعسل وشرب الشاى الأسود والسهر وسط دخان الحشيش الأزرق تستمع إلى أم كلثوم وتكاد تنتحر إذا ما خسر فريق كرة القدم الذى تشجعه ولم أكن أستوعب سلوكيات المصريين السلبية إذا ما أبعدوا عن شئون بلادهم.

لكننى فى ذلك اليوم ومن شدة الانكسار فقدت الثقة فى الشعب بعد أن شعرت بالغربة فى الوطن.

وعرفت وقتها لم انتشر الاكتئاب بين المثقفين ولم تضاعف إقبالهم على المهدئات ولم لجأ بعضمهم للتدين منقلبا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.

ما إن وصلت البيت حتى أغلقت باب حجرتى فاقدا شهيتى فى الطعام ورغبتى فى الكلام وحماسى للدراسة بل إننى ندمت على دخولى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وفكرت فى التحول إلى كلية الطب أو الهندسة أو غيرهما من التخصصات التى تسمح بالعمل فى الخارج بسهولة لكن كانت المشكلة أننى لا أطيق تلك المهن ولا أتصور نفسى فيها.

على أننى شعرت بأن هناك دنيا أكبر من دنيانا التى ضاقت بنا بعد أن حشرونا فى خرم إبرة فلم نقرأ صحيفة أجنبية ولم نسمع إذاعة أجنبية ولم نطلع على كتب معارضة ولم نتعرف على ثقافات أو تجارب أخرى غير ما لقنوه لنا.

إن الشخص لا يثق فى طوله إلا إذا وقف بجانب شخص آخر أقصر منه.. والدولة لا تعرف مدى حريتها ونجاحها إذا لم تقارن نفسها بغيرها.. والنتيجة الوحيدة.. لا مفر من السفر إلى الخارج.. ربما هربا.. ربما زهقا.. أو ربما علما.

قررت أن أطفش مجروحًا مطعونا متألمًا وأمام حالتى التى لم تعد تسر أحدا وافق والدى على سفرى إلى الخارج ووضع فى يدى تذكرة طائرة إلى لندن وعشرين دولارا وكان شرطه الوحيد أن أعود فى وقت مناسب قبل الامتحانات واثقا فى قدرتى على النجاح ولو ذاكرت أسابيع قليلة.

قضيت خمسة أسابيع فى أوروبا.. عملت حارسا ليليا وبائعا فى محل شاورمة لكسب النقود.. أكلت وجبات قليلة رخيصة.. سافرت بطريق الاوتستوب غالبا.. عرفت لنا الملكية.. ووارسو الشيوعية.. وروما التاريخية.. وباريس المتمردة.. وفيها توقفت طويلا.

كانت باريس تعيش ذروة ثورة الشباب الذى تمرد على كل شىء.. الحكومة والكنيسة والصحافة والجامعة والعائلة والصحافة والسياسة والزواج والملابس الأنيقة.. وبدأ الترويج لجماعات الهيبية والحرية الجنسية والعودة إلى الطبيعة.. لكن.. ذلك كان على هامش تيارات سياسية يسارية شابة بدأت تفرض نفسها على تنظيمات شيوعية شاخت وتحالفت مع الرأسمالية وأصبحت تابعة لها.

تعرفت على لبنانية شابة تدرس العلوم السياسية وتتمتع بجاذبية خاصة منحتها حيوية جعلت منها شخصية قيادية.. كنا نحتل الطرق المؤدية إلى جامعة السربون وننام على أرصفتها.. نأكل خبز الباجت حافا وأحيانا كنا نحشوه بالجبن والبسطرمة.. ولم يكن الغضب يخلو من متعة الموسيقى البرية على جيتار سبانش يعزف عليه من يجد فى نفسه موهبة أو نشوة.

وذات يوم دعتنى حنان شرارة لحضور لقاء مع مفكر ومفجر الثورة ونبيها الفيلسوف هربرت ماركيوز (أو مركوزه) الذى جاء خصيصا لدعم جماعة فرنسا قادما من ألمانيا لمدة ثلاثة أيام وجلس وسط الشباب فى الحى اللاتينى وكأنه واحد منهم.

وماركيوز ولد فى برلين عام 1898.. بدأ حياته بائع كتب.. وانتسب إلى جامعة فرانكفورت لدراسة الفلسفة بجانب دراسته فى معهد العلوم الاجتماعية هناك.. وشكل جماعة فكرية ذات توجه ماركسى ظلت حتى عام 1933 تدعو إلى تطوير النظريات اليسارية.. وفى ذلك العالم وصل الحزب الاشتراكى القومى الذى اشتهر بالحزب النازى إلى الحكم فسافر ماركيوز إلى سويسرا ومنها إلى الولايات المتحدة حيث انضم إلى جامعة كولومبيا.. وخلال الحرب العالمية الثانية لعب دورا رسميا فى الدعاية ضد هتلر.

ركز ماركيوز فى كتاباته على نقد الرأسمالية وتجديد الماركسية موجها نقده للتنظيمات الشيوعية والاتحادات العمالية التى استسلمت لنظم الحكم الإمبريالية ففقدت أحلامها قبل أن تفقد أتباعها.. واعتبر ماركيوز الطلاب والنساء والزنوج وغيرهم من الأقليات والعاطلين الذين لا يخضعون لسطوة الشركات متعددة الجنسيات هم القوى الثورية الجديدة التى يصعب استيعابها من خلال نمط الاستهلاك السائد.

وعبر ماركيوز عن أفكاره فى كتب لا تزال تدرس فى الجامعات الغربية مثل كتاب العقل والثورة وكتاب الحضارة والرغبة وكتاب الإنسان ذو البعد الواحد وكتاب الماركسية السوفيتية الذى انتقد فيه التجربة البولشيفية بجانب دعوة ملحة لتحريرها من الجمود الفكرى وإن توقع عدم الاستجابة متنبئا بانهيارها وهو ما حدث فيما بعد.

وفى عام 1979 توفى ماركيوز بجلطة فى المخ أجهزت على حياته فى دقائق معدودة.

جلست إليه مستمعا ومستمتعا بما يقول عبر ترجمة حنان شرارة التى استجبت لاقتراحها بإجراء حوار معه أنشره فى مصر التى تجهله ربما تعلمنا الفرق بين الثورة والضجة التى تهب عصبيا وتموت سياسيا دون أن يكون وراءها تفكير أو تنظيم أو خطة ترسم مستقبلا.

رحت أسال وهو يجيب وحنان تترجم ورحنا معا نصيغ حواره ونضع عناوينه دون حاجة لتبرير إجرائه فقد كان عام 1968 عام ثورة الشباب فى العالم كله من مصر إلى الولايات المتحدة مرورا بفرنسا التى أجبرت رئيسها الجنرال شارل ديجول على أن يجرى استفتاء شعبيًا غير متوقع على استمراره فى الحكم.

أصبح لدينا حوار صحفى عالمى لكن المشكلة: أين ننشره؟

لم أفكر إلا فى روزاليوسف.. المجلة السياسية التى تدخل بيتنا ونشارك أبى فى قراءتها وأعرف المشاهير من كتابها.. وتحمست حنان شرارة لها.. واتفقنا على أن نرسل الخطاب باسم صلاح حافظ فهو الأكثر مهنية رغم أنه ليس رئيس التحرير.

أرسنا الخطاب ونسيناه فلم نتصور أنه سيلقى اهتماما لكن بعد أسبوعين فوجئت بحنان تأتى مهللة وهى تحمل فى يدها صحيفة لبنانية تراسلها قائلة:

روزا نشرت الحوار وصحيفتى نقلته عنها ضربنا عصفورين بحجر واحد.

قدم صلاح حافظ الحوار مشيرًا إلى موهبتى الشابة فى طرح الأسئلة وصياغة الحوار واختيار العناوين ثم نشر نص الحوار كما هو، ولكنه أنهاه بتعليق من عنده أجهز عليه فقد اتهمنى بالبراءة السياسية وربما الغفلة المهنية.. فـهربرت ماركيوز الذى تحمست للحوار معه لم يكن فى نظر صلاح حافظ إلا عميلاً للمخابرات الأمريكية مهمته نسف النظرية الماركسية التقليدية من جذورها لحساب يسار جديد يسهل السيطرة عليه حسب ما كتب.

وهكذا.. موضوعى الأول فى الصحافة جاء دون أن أقصد مع شخصية عالمية ونشر بلا تدخل لكنه فى الوقت نفسه جاء إلىَّ بتهمة العمالة وإن لم يفصح صلاح حافظ عنها صراحة مكتفيا بنصحى أن أكون يقظا حتى لا أجد نفسى متورطا فى قضية تجسس متعددة الجنسيات.

كانت مشكلة صلاح حافظ هى نفسها مشكلة كل الفرق اليسارية المختلفة فى مصر.. كل تنظيم يتهم الآخر بالعمالة للأمن.. وكل فصيل يتهم غيره بالتفريط فى مبادئ الماركسية والوقوع فى براثن البرجوازية.

كانت تلك المشكلة بمثابة عقدة مزمنة لليسار فى بلادنا.. أفقدته وحدته.. وفتت تماسكه.. وأجهزت فى النهاية عليه.. أكثر من ذلك منعت أجيالاً جديدة من الإيمان برسالته.. وربما كان السبب نجاح الأمن فى اختراقها.. وربما كان السبب المثالية المرضية التى يعيشها المثقفون فى أبراجهم العالية.. وربما كان السبب تحويل أحلامهم السياسية فى العدالة الاجتماعية إلى حقائق ملموسة.

كل مناضل مخبر ولو ثبت العكس.. كل مثقف عميل للسلطة مهما بدا ملتزما.. الاختلاف جريمة.. والاجتهاد عار يعاقب بالتشهير والتدمير.

وتوسعت تلك الحرب لتصيب كل موهبة شابة تقترب من الصحافة لو كانت مستقلة عن التنظيم اليسارى الذى يسيطر على المطبوعة.. فى ساعات قليلة ستوصم تلك الموهبة فى كافة الأوساط السياسية والثقافية والصحفية بما يحطمها أو يشلها أو يجبرها على الهروب فخربت المهنة وجلسوا على تلها.

عشت تلك المأساة بوضوح فى روزاليوسف عندما دخلتها وشهدت معارك خفية بين كتابها اليساريين الذين يسيطرون على تحريرها فانتهت مجلة هزيلة ضعيفة محدودة التوزيع والتأثير تحتاج إلى معجزة كى تسترد مكانتها بين قرائها.

دخلت المجلة امرأة شابة متزوجة تمتلك سيارة وحماتها محامية شهيرة.. لم تكن جميلة لكنها كانت جذابة.. لا تجد حرجا فى ارتداء ملابس قصيرة فوق الركبة.. وتنافس على نيلها اثنان من أقطاب الشيوعية قضيا سنوات من عمرهما فى المعتقلات وخرجا منها يعوضان بشراهة ما فاتهما.. أحدهما من عائلة ارستقراطية انجذب إلى اليسار خلال دراسته فى باريس من باب الملل أو التغيير.. والآخر من عائلة فقيرة كان اليسار طريقا إجباريا اجبر على السير فيه.. وراح كل منهما يتقرب إليها متهما الآخر فى شرفه السياسى وعندما فشلا فى الحصول عليها اتهماها معا بأنها مخبر مدسوس من الأمن.

وهربت المرأة الشابة بجلدها وراحت تتدرب فى مؤسسة صحفية أخرى دون أن أعرف هل تكرر التحرش بها هناك؟ أم أنها شقت طريقها دون متاعب إلا ما تفرضها المهنة.

وحدث أن صحفيا يساريا كان فى اجتماع خلية من خلايا التنظيم وبعد أن غادر الاجتماع ونزل إلى الشارع وجد البوليس السياسى يستعد لمداهمة المكان فعاد سريعا إلى زملائه ليقبض عليه معهم حتى لا يتهم بأنه هو الذى أرشد عنهم مع أن العقل يقول: إن وجوده خارج المعتقل مفيد لهم وللتنظيم، كما هو الحال فى جماعة الإخوان ولكن لم يكن بيد الرجل حيلة فقد خشى على سمعته من التلوث ولو كان الثمن حريته.

لم أكن أعرف تلك الوقائع وصلاح حافظ يتهمنى بالسذاجة ويحذرنى من الوقوع فى براثن الخيانة فى حوارى مع ماركيوز.

لكننى شعرت بالإهانة مما كتب وقررت الرد عليه فى مقال نشره هو بنفسه فى بابه الأسبوعى قف ردا على اتهام اليسار الجديد بالعمالة.

وصفت فى الرد موقف الأحزاب الشيوعية القديمة التى ينتمى لواحد منها (حدتو أو الحركة الوطنية للتغيير) بالتخاذل والترهل والضعف والاستسلام وقبول أنصاف الحلول والعجز عن التجديد والفشل فى ترجمة العقائد إلى خطط واقعية مناسبة للمجتمع وعدم مد الجسور مع كوادر جديدة تواصل المسيرة.

وجاء تعليق صلاح حافظ على الرد أكثر جاذبية مما كتبت.. أسلوبه ساحر وموح ومؤثر وممتع جعله يكسب معركتى الأولى معه بسهولة وهو ما علمنى الدرس الأول فى الصحافة: ليس مهما أن تكون على حق ولكن المهم أن تكون قادرا على إثباته وإقناع الناس به.. إن كثيرا من المحامين يخسرون قضاياهم بسبب عجزهم عن التعبير عنها.

ولنفس السبب خسرنا معركتنا الثانية مع صلاح حافظ.

فجأة فتح صلاح حافظ النار على مجلة الشباب العربى التى كانت تصدر عن منظمة الشباب ووصفها بأنها مجلة عجوز.. كان جيل كامل من الكتاب الذين احترفوا الصحافة فيما بعد بدأوا مشوارهم فيها.. نصر نصار الذى انتقل إلى الإذاعة وأعير إلى بى بى سى ليعود إلى القاهرة ويقدم نشرة الأخبار فى التليفزيون قبل أن يلقى حتفه فى حادث سيارة.. وزوجته أمل الشاذلى التى تخرجت فى كلية الاقتصاد وعملت فى صحيفة العالم اليوم وعبد القادر شهيب خريج الكلية نفسها الذى عمل فى روزاليوسف قبل أن ينتقل إلى المصور.. وزميله فى الدفعة عثمان محمد عثمان الذى أصبح وزيرا للتخطيط.. وعبد اللطيف حنفى الذى لمع على صفحات الرأى فى الأهرام.

كنت أتصور أننا سنغير المجتمع بدراساتنا ومقالاتنا وأبحاثنا الجادة وعبرنا عمَّا نكتب بأسلوب جاف وكلمات ناشفة مصنوعة من طوب وزلط وهو ما أدى إلى ضعف توزيع المجلة وهو أيضا ما جعل صلاح حافظ يصفها بالشيخوخة المبكرة.. والسبب أنه لم يجد فيها ما يشغل الشباب وما يناسبه من حب ومرح وتجديد.. لكننا كابرنا فيما نفعل.. فالعناد هو الصفة الوحيدة التى كنا نتمتع بها ونحن نحرر المجلة.. بجانب تصورنا أننا على صواب وأن الجيل السابق يستحق الإعدام.

رحنا نهاجم صلاح حافظ واتهمناه بالترويج لصحافة إثارة لا هم لها سوى اللعب على غرائز القراء وهى التهمة التى طاردتنى فيما بعد عندما أصبحت مسئولا عن تحرير روزاليوسف.

وجاء رد صلاح حافظ بليغا ومؤثرا: إن مجلة الشباب ليست فقط عجوزة وإنما عصبية أيضا.

الدرس الصحفى الأول يتأكد بمثال آخر.. لابد من موهبة فى التعبير.. لابد من أسلوب جذاب مؤثر.. وإلا تحولت القراءة إلى عقوبة.

لقد شاء القدر أن أدخل فى معركة صحفية مع صلاح حافظ دون أن التقى به ودون أن أتصور أنه سيصبح فيما بعد الأسطى الذى سأتعلم تحت يديه.. أو الأستاذ الذى علمنى مليون حرف ولم أصر له عبدا وإنما صرت صديقا.

لم يخطر ذلك ببالى.. بل إننى لم أتصور نفسى مناسبا لمهنة الصحافة.. وانصرفت إلى دراستى الجامعية متخصصا فى علم الاقتصاد وهو علم يصعب تحصيله من القراءة الخاصة على خلاف علم السياسية الذى يمكن استيعابه بسهولة استيعاب مناهجها.. لكن.. الأهم أن تخصصى فى الاقتصاد كان بحثا عن مهنة مناسبة فى بنك أو شركة بعيدا عن السياسة التى اعتزلتها قبل أن أبدأها.

على أن القدر أجبرنى على التورط من جديد فى السياسة عبر الصحافة.. أكثر مهنة تخشاها السلطة مهما كانت رحابة الحكم وديمقراطية الحاكم فالعلاقة بينهما احتياج متبادل لا يخلو من التربص.. الحاكم يريد أن يأكل لحم الكاتب نيئا أو مشويا والكاتب يسعى جاهدا للنجاة من سكين حاد ربما يهدد رجولته التى يلخصها فى قلمه.

كنت أكتب محاولات فى القصة القصيرة جمعتها فى كشكول أخضر وتصادف أن كنت أحمله وأنا أركب التروللى باس (أتوبيس يعمل بالكهرباء لم يعد فى القاهرة) عائدا من الجامعة وشاءت الصدفة أن يتعطل بجانب روزاليوسف مباشرة.

نزلت منه لأجد فى داخلى قوة خفية تحرضنى على دخول روزاليوسف ربما قبلت بنشر قصة من قصصى القصيرة أو ربما أردت أن أرى على الطبيعة المكان الذى اشتبكت معه عن بعد.

وراء المدخل الزجاجى كان يجلس موظف الاستعلامات محمد أبو طالب على مكتب خشبى صغير ويضع على رأسه بيريه أزرق مثل الذى يستعمله توفيق الحكيم وانتشر بسببه بعد أن جاء به من باريس مقلدا الكتاب والفنانين هناك وقت إقامته فيها.

بصوت مرحب وابتسامة مشجعة سألنى عما أريد؟ فأجبت دون تردد: أريد مقابلة صلاح حافظ ورغم عدم وجود موعد إلا أنه سمح بالصعود إلى الدور الخامس قائلا: هناك اسأل عنه فليس له مكتب ثابت.

لم يطلب منى الانتظار حتى يستأذن تليفونيا رغم أن صلاح حافظ نائب رئيس تحرير لكنها طبيعة روزاليوسف الخالية من العقد البيروقراطية والفاتحة ذراعيها للمواهب دون وساطة.

فى الدور الخامس سألت ساعيا نوبيا (عرفت فيما بعد أن اسمه جمال سليمان) عنه فاشاح بوجهه لكنه أشار بيده إلى رئيسه عبدالراضى أبو الوفا الذى ذهب معى بنفسه إلى مكتب قريب يستعمله صلاح حافظ فى غياب صاحبه رئيس التحرير أحمد حمروش.

رجل نحيف مبتسم يحمل فى يده حقيبة مدرسية ما أن ذكرت اسمى حتى ابتسم قائلا: أجلس أريد أن أعرف حكايتك.

لخصت له ما جرى لى وانتهيت إلى أننى لن احترف الصحافة وإن فكرت فى التعبير عن نفسى بكتابة القصة فأمسك بالكشكول الأخضر وقلب أوراقه وقرأ بعضا منها ليقول: الهزيمة ألغت الحكايات وعطلت كتابة القصة وبسببها تحول معظم الأدباء إلى كتابة المقالات سعيا وراء فرصة أسرع للتعبير عن الكارثة التى تورطنا فيها نحن فى حاجة إلى صحفيين لا أدباء جئت بكشكولك متأخرًا.

لكن رغم ما سمعت منه شعرت أننى وجدت رجلا يتمتع بثبات يندر توافره فى غيره ويمتلك موهبة مميزة فى الصحافة المصرية ويعبر عن نفسه بتواضع يصعب وجوده.

رجل تأثرت به وتعلمت منه وتربيت على يديه وانتميت إليه وسحبنى بسحره إلى مهنة لم أتصور نفسى مناسبا لها لكنها الأقدار التى تحدد مصائرنا.


السبت القادم:

الصحفى الوحيد الذى جمع بين مدرستى أخبار اليوم وروزاليوسف فى وقت واحد؟

السادات للشرقاوى: الشيوعيون ضحكوا عليك يا عبد الرحمن!

خبأت تحية كاريوكا صلاح حافظ من البوليس السياسى فعرض عليها الزواج!