تفسير الشعراوي للآية 62 من سورة الأنعام

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ(62)}.

وكلمة (ردوا) تفيدا أن كان لهم التقاء به أولا، وبعد ذلك سوف يرجعون، كيف؟ لقد كانوا منه إيجاداً ثم ردوا إليه حسابا ثوابا وعقابا؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ...} [طه: 55].

{ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} وكلمة (مولى) تعني أنه هو الذي يليك، ولا يليك إلا من هو قريب منك. وهذا القريب قد يكون منْجدا لك إن حدث لك ما يفزعك وهو الذي يُعينك، وهكذا أخذت كلمة (مولى) معنى القريب، والناصر والمعين الذي تفزع إليه في شدائدك، وقد يوجد لك مولى في الدنيا وهو من الأغيار. ومن الجائز أن يتغير قلبه عليك، ومن الجائز أن تنالك الأحداث التي هي فوق قدرته وطاقته، ومن الجائز أن يكون لك مولى تنشده وتطلبه لنصرتك فيرفض؛ لأن خصْمك له بهذا المولى ولاء أقوى وأشد فيقف بجانب خصمك وقد يوهمك أنه معك لكن قلبه ليس معك.

لكن هناك في الآخرة مولى حق واحد {ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} وتطلق كلمة (موْلى) على السيد حين يعتق عبده. وحين يعتقنا ربنا من النار أليس في ذلك أعظم ولاية؟. إنه المولى الحق، فلا توجد قوة أعلى منه وهو لا يتغير؛ لأن الأغيار من طبيعة الخلق.

وحين يطلب منك الحق أن تُعمل عقلك لأنك حين تعتمد على واحد ينفعك في أمورك فأنت تتوكل عليه، وتطلب مساعدته، وهنا يأمرك الحق بأن تتوكل على الحي الذي لا يموت، ولا تتكل على واحد من الأغيار فقد يصبح الصباح فتجده قد خلا بك وتخلىّ عنك. أما إذا كان مولاك هو الحق فلن يخذلك.

{ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق أَلاَ لَهُ الحكم}. ولماذا جاء بكلمة (الحكم) هنا؟؛ لأننا في دنيا الأغيار قد يسند سبحانه بعض الأحكام إلى بعض خلقه؛ فهذا يحكم، وذلك يتصرف، وآخر يصدر قراراً بالتعيينات، وكلها أحكام، أما في الآخرة فالحق يقول: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].

وأنت في الدنيا تملك، ويكون رزق ابنك- على سبيل المثال- من يدك، وتملك أن تصدر قراراً بترقية من هو أقل منك، وتملك أن تخيط الثوب لغيرك إن كانت تلك مهنتك، ففي الدنيا كل منا يملك بعضاً من أسباب الآخر. لكن في الآخرة لا يوجد شيء من هذا: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].

وساعة تسمع (ألا له الحكم) ف (ألا) في اللغة أداة تنبيه لما يأتي بعدها، ولماذا تأتي أداة التنبيه هنا؟ لأن الحكم القادم بعدها حكم مهم. والكلام- كما نعرف- واسطة بين متكلم ومستمع؛ لأن المتكلم ينقل أفكاره وخواطره توجد في خياله نسبة ذهنية، أي أنه يعايش مشروع الكلام ويتدبره قبل أن يتكلم، أما السامع فهو يفاجأ، وعندما تريد أن تقول أمراً مُهمٍّا فأنت تحاول أن تضمن انتباه السامع حتى لا تفلت منه أية جزئية من كلامك، فتقول: (ألا) لتشد انتباه السامع تماما.

والحق هنا يقول: (ألا) ليأخذ انتباه السامع، ويأتي بعدها قوله: {لَهُ الحكم}.

إذن: ساعة تسمع (ألا) فاعرف أن فيها تنبيهاً لأمر قادم {لَهُ الحكم}.

والحكم: هو الفصل بين أمرين، ويختلف الفصل بين أمرين باختلاف الحاكم؛ فإن كان الحاكم له هوى فالحكم يميل، لكن الفصل بين الأمرين يجب أن يكون بلا هوى، فالحكم بالميزان يقتضي أن تكون له كفة هنا وكفة تقابلها، وساعة ما نضبط الميزان نحاول أن نوازن الكفتين لنفصل بين مسألتين ملتحمتين، وما دمنا نريد التساوي فنحن نسمي ذلك: الإنصاف، أي أن نقف في النصف دون ميل أو حيْف.

{أَلاَ لَهُ الحكم وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} وساعة يسمع إنسان {أَلاَ لَهُ الحكم} فالواحد منا يعلم أنه سبحانه يحكم بين الخلق بداية من آدم إلى أن تنتهي الدنيا، وكل واحد منا تتشابك مسائله مع غيره، وما دام الله الحكم فليس لغيره معه حكم، ويحكم بين الخلق جميعاً وفعله لا يحتاج إلى زمن، ونتذكر هنا الإمام عليّا- كَرمّ الله وجهه- حين قالوا له: كيف يحاسب ربنا الناس جميعا في وقت واحد، وبمقدار حلب شاة كما قال بعضهم؟ فقال الإمام عليّ: (كما يرزقهم في وقت واحد يحاسبهم في وقت واحد)، وهذه مسألة سهلة ليس فيها أدنى صعوبة أبداً. وقديماً عندما كانوا ينيرون الطرقات كانوا يشعلون المسارج: هنا مسرجة، وهناك مسرجة، وعلى البعد مسرجة ثالثة، وكان الوقاد يمشي ليشعل المسارج.. إلخ، وارتقى العقل البشري المخلوق لله واستطاع أن ينير الطرقات بالطاقة الكهربائية أو الطاقة الشمسية وفي وقت واحد.

ويقول الحق بعد ذلك: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ...}.