الكتابة على الجدران في تونس: بين الفن والعبث

عربي ودولي

الكتابة على الجدران
الكتابة على الجدران


حينما تتجول في المدن التونسية في الأحياء الشعبية والأماكن العمومية يسترعيك مظهر لافت للانتباه يتمثل في أنّ الكثير من الجدران تحوّلت إلى ما يشبه الورقة المكتوب عليها ما شاء الله من العبارات منها ما هو ذو مضمون سياسي وإجتماعي ومنها ما هو ذو مضمون رياضي ومنها ما يعبّر عن مراهقة غامرة؛ كأن يكتب أحدهم اسمه واسم حبيبته ويرسم قلبا عربونا منه لعشقه الكبير لمعشوقته الساحرة.

الكتابة على الجدران وهامش التعبير
ظاهرة الكتابة على الجدران أو الغرافيتي من الظواهر العالمية القديمة التي كان يلجأ إليها الإنسان لتخليد ذكرى معينة أو معركة حربية أو موقف معين, وهي ظاهرة عرفها المجتمع التونسي إبّان فترة الاستعمار وقبل الثورة, ولكن بشكل محتشم بالمقارنة مع السيل العارم من "اللوحات الجدارية" التي باتت تعترضك اليوم في مختلف الأنحاء.

إذ قلّما تخلو مدرسة أو معهد أو حي في تونس من الكتابة على الحيطان, وهي كتابة تحمل  
عبارات تختلف في معناها ودلالاتها, هي أقرب إلى الشعارات والخربشات المقرونة بالصور المرسومة بلغات مختلفة  تجمع بين الفصيح والدّارج والعربي والأعجمي,  وهي تحمل في الغالب رسائل الغضب والسخرية والفكاهة، وفي بعض الأحيان تتضمن أبيات شعر خالدة، أو رسوما طريفة، تشد انتباه المارة كما لا يخلو بعضها من الكلام الخادش للحياء ومن العبارات النابية.

المفارقة أنّ علماء الاجتماع يجمعون على أنّ الكتابة على الجدران تنشأ في ظل مناخ القمع والإستبداد والنظام الديكتاتوري الذي يحظر التعبير عن الآراء ويصادر الحريات.

غير أنّ الوضع السياسي في تونس بعد الثورة منح هامشا من الحريّة كبير ومجالات التعبير واسعة سواء في الفضاء الافتراضي أو الواقعي, فلماذا يقدم البعض على خلع الأبواب المفتوحة؟.
الكتابة على الجدران بين الرفض والقبول

ينظر البعض إلى أنّ الرسم على الجدران كان دائما فنا ملتزما، يحمل رسالة ملتزمة تجاه الأهداف النبيلة، وأنه خلال الثورة التونسية؛ سمح للتونسي بتحرير طاقته، والتعبير عن مواقفه في وجه الديكتاتورية، ثم لاحقا في وجه التعصب والإرهاب.

كما ينظر هؤلاء إلى الكتابة على الجدران؛ على أنها أصبحت تمثل مصدر إلهام للتونسيين في حياتهم اليومية، ووسيلة للدفاع عن القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية، بفضل الموهبة التي يتمتع بها بعض الشبان.

غير أنّ هذا لا يمنع من أنّ البعض الآخر يخرج الكتابة على الجدران من دائرة الفن ليعتبره سلوكا ممجوجا وشكلا من أشكال التلوث الذهني والبصري باعتباره يشوّه البناءات ويخلّ بجماليّة المدن والعمران هذا فضلا عن كونه اعتداء على الفضاء العام الذي نتقاسمه مع الآخر.

ولعلّ من أشدّ مظاهر الكتابة على الجدران إيذاء تلك التي تطال المعالم التاريخيّة والأسوار الأثريّة.
فيكفي أن تتجوّل بين بعضها في مدينة سوسة مثلا حتّى تدرك حجم الجرم الذي يرتكبه البعض في حقّ تاريخهم, إذ تجد عبارات وشعارات مرفوعة ورسائل هجينة تعلو بعض الأسوار في ظل الصمت الرهيب للسلطات التي لم تتدخّل ولم تعمل على صيانة معالمها ومحاسبة الأطراف التي انتهكت حرمة التاريخ.

ما جعل السيد أنور الفاني نائب رئيس جمعية صيانة مدينة سوسة يطلق صيحة فزع من أجل العمل على حماية تراث المدينة من العابثين منبّها من خطورة ذلك وتداعيات الإهمال الذي قد يؤدّي إلى إخراج المدينة من لائحة التراث العالمي لليونسكو.

الكتابة على الجدران: والمعالجة الممكنة
تحوّلت ظاهرة الكتابة على الجدران إلى واقع بصري مألوف في مختلف شوارع تونس, ورغم أنّ المواقف منها تختلف بين من يعتبرها فنّا بديعا ووجها من أوجه حريّة التعبير الراقية,  فإنّ البعض الآخر وهم من الأغلبية الساحقة يعتبرونها  ظاهرة مزعجة ومفسدة للذوق العام باعتبار ما تتضمنه أحيانا من لغة هابطة غير مناسبة للمارة والسكان كما أنّها لا تراعي خصوصيّة هذا المكان وذاك.

وتبقى المعالجة التربويّة في رأينا أساسيّة من أجل تهذيب الذائقة العامة وتحسيس النشأ بأهميّة المحافظة على الرأسمال الرمزي بما في ذلك المعالم والمنشآت العموميّة وعدم الاعتداء على الأملاك الخاصة.

فالحريّة إذا تجاوزت الحد إنقلبت إلى فوضى, وإذا كان المراد منها هدم الثوابت والأخلاق ونشر الشعارات البذيئة والصور الرديئة فإنّها ستكون حريّة دخيلة هدّامة لا نحتاجها.