د. رشا سمير تكتب: رحلتى إلى مقبرة جبران فى لبنان

مقالات الرأي



انطلقت السيارة تقطع الطريق الخلاب الذى أخذنا من أسفل إلى أعلى..من سفح المدينة إلى نهد الأطراف البعيدة..من صخب الحياة بكل أشكالها إلى هدوء الجبال بروعتها..من ضجيج البشر وصراع الطوائف إلى سكون الطبيعة وحفيف أوراق الأشجار..من مذاق التسوق والماركات إلى سكون المعانى.. اختطفتنى صديقتى الشاعرة المغربية التى سكنت بيروت طويلا إلى رحلة أصرت أنه آن أوان أن أكون شاهدا على تفاصيلها..


حاولت أن أعتذر  نظرا لبُعد المكان..وضيق الوقت الباقى من إجازتى..لكن ترددى زادها إصرارا..وأقسمت لى أنها سوف تأخذنى إلى أعلى قمة فى لبنان حيث جمال المكان وعبق التاريخ وصور لن تسقط أبدا من ذاكرتى..

سارت بنا السيارة تتهادى وهى تصعد لارتفاع 500 متر فوق سطح البحر، ثم إلى 1000 متر حتى انتهينا إلى لـ1500 متر..     

رست بنا السيارة وسط المشاهد الخلابة لبلدة بشرى، ومحيطها، فى جبال شمال لبنان، وتحديدا فى وادى قاديشا الذى يعتبر من أعمق أخاديد لبنان، ويبعد 120 كلم عن العاصمة بيروت، ومع ذلك فهو يرتفع نحو 1500 متر عن سطح البحر..

انتهت بنا رحلة الصعود إلى الدقائق التى بحق سكنت مسامى، حيث متحف الشاعر اللبنانى العظيم جبران خليل جبران..الرحلة التى لم أندم يوما أننى قمت بها على الرغم من أنها استغرقت ما يقرب من الثلاث ساعات إلا أننى تعودت من لبنان ألا تخذلنى يوما ولم تترك أبدا فى نفسى سوى ملامحها الجميلة..

اليوم فقط قررت أن أكتب عنه وعن تلك الرحلة التى علقت بذاكرتى وألهمتنى السكون كلما رجعت إلى صورى التى التقطتها هناك..لماذا الآن؟ لأن جبران هو ابن شهر يناير، وليد الشهر الذى جاء بأعظم شاعر فى الوطن العربى ليثرينا بأشعاره وأفكاره.. تلك الرحلة التى دعانى إليها شاعرى المُفضل..هى الرحلة التى قررت أن اصطحب فيها قرائى.


1- من هو جبران؟

من منا لم تستوقفه كلمات فى كتاب أو أبيات لمحها فوق مُعلقة، أو مقطوعة فلسفية مكتوبة على صفحات التواصل الاجتماعى، وسأل عن صاحب القلم، فأجابوه: إنه جبران!..فمن هو جبران؟..

جبران خليل جبران هو شاعر ورسام لبنانى، المولود يوم 6 يناير من عام 1883 ببلدة بشرى فى شمال لبنان وتوفى فى نيويورك  10 إبريل 1931م وهو فى الثامنة والأربعين من عمره..

لم يذهب جبران إلى المدرسة لأن والده لم يُعط هذا الأمر أى أهمية، نظرا لأنه كان أبا فاشلا ولم يحمل أى قدوة لابنه ولا حتى ترك أى ذكرى..ولذلك كان جبران يذهب من حين إلى آخر إلى كاهن البلدة الذى سرعان ما أدرك جديته وذكاءه فأنفق الساعات فى تعليمه الأبجدية والقراءة والكتابة وفتح أمامه مجال المطالعة والتعرف إلى التاريخ والعلوم والآداب..

قررت الأم لاسيما بعد دخول الأب إلى السجن أن تأخذ أبناءها وتهاجر إلى أمريكا..وبالفعل هاجرت إلى بوسطن..أتقن جبران فى أمريكا الشعر والرسم وبدأت الأضواء تسلط عليه، ولما خافت أمه عليه من أضواء الشُهرة أعادته إلى بلدته بشرى من جديد، ولكن يبدو أن القدر كان قد سطر فى صفحاته أن يلمع اسم جبران وموهبته فى سماء لبنان..فخرجت من بين أصابعه لوحات بديعة ونصوص روائية وشعرية عظيمة..

من أعظم قصص الحُب التى كتبها التاريخ بين مشاهير عرفهم، هى تلك التى جعلت جبران يقع فى غرام مى زيادة واستمرت المراسلات بينهما لمدة عشرين عاما منذ تعارفا وحتى وفاة جبران دون أن يلتقيا!..لم يتزوجا ولم يلتقيا ولكن أشعارا كتبها ورسائل سطرها ولوحات رسمها ظلت هى الذكرى الخالدة لقصة حُب لم يشهد لها التاريخ مثيلا..فهى قصة حُب لم يلتق أبطالها، أو ربما كان هذا هو سبب نجاحها!..وعندما كتب المؤرخون عن مى زيادة قالوا: «« أحبها الجميع..فأحبت جبران»».


2- حول أشجار السنديان

يرتفع المتحف فوق واد منخفض تحتضنه أشجار السنديان، والصنوبر، وعشب الوزال.. ويقع على أعتاب غابات الأرز المتناسقة التى تصطف لتصنع عالما رحبا من الجمال..

يحمل المكان رهبة لا يمكن أن يخطؤها الزائر..فأنت فى حضرة شاعر عظيم منذ أن تطأ المكان بقدميك..أنت أمام لوحات الرسام جبران..لوحاته التى تحمل حياته ومقتطفات من قصته ووجوه عاش بينها..فتلك لوحة لمى زيادة وهذه لأمه السيدة التى احتضنت موهبته وهناك صورة تخيلها لنفسه لتكون غلاف كتابه النبى.. سألت نفسى..لماذا هذا الدير؟ وهل اختار جبران به نهايته أم اختارته النهاية؟..

وبعد العديد من الحوارات مع القائمين على العمل بالمكان..جاءتنى الإجابة..

فى وصيته الأخيرة، أهدى جبران لوحاته ورسومه وأشياءه الثمينة إلى مارى هاسكل الصديقة التى رعته أثناء مرضه فى أمريكا، تاركا لها الخيار فيما تراه مناسبا بشأن ذلك ..فكان حنينه إلى وطنه فى ذاكرتها هو سيد الموقف، لترسل بعدها كل هذا التراث الجبرانى إلى بلدته بشرى عام 1933، التى قامت بعرض اللوحات الفنية فى أماكن كثيرة، قبل أن تستقر فى متحف يليق بهذا الإرث الفريد..ذاك المتحف الذى أسس فى عام 1975، حين اكتشفت «لجنة جبران الوطنية» رغبته التى عبر عنها فى إحدى وثائقه المدونة عام 1926 فى شراء دير «مار سركيس» الذى يفوق عمره الـ1500 سنة «وهو عبارة عن مغارة قديمة تعاقب فيها الحبساء منذ القرن السابع للميلاد»، ليجعل منه صومعة فكرية ومقرا له بعد عودته من نيويورك.

لكن حلم جبران لم يتحقق، إذ توفى بعدها بخمس سنوات، وفى 22 أغسطس عام 1931، وصل جثمانه إلى بشرى، فابتاعت أخته مريانا الدير وملحقاته، منفذة جزءا من وصية شقيقها بأن يدفن فى المحبسة.


3- التراث الجبرانى

يضم المتحف 440 لوحة، بين زيتية ومائية ورصاصية وطبشورية، ترتكز على مشاهد الطبيعة بكل تجلياتها، و500 غرض شخصى لجبران، فضلا عن أثاثه المتواضع وكتبه ومراسلاته، التى عكست مشوار حياته بكل مراحلها، إضافة إلى مكتبته الخاصة.

المتحف به 16 غرفة ذات سقوف منخفضة، ومساحات ضيقة مرقمة بالأعداد الرومانية المحفورة على خشب الأرز.

تتوزع هذه الغرف على ثلاثة طوابق تتعاقب فى أدراج حلزونية، تؤدى فى النهاية إلى المغارة التى شاء جبران أن تكون مثواه الأخير..وفيها حيث سجى، وإلى جانبه مرسمه وطاولة الكتابة التى كان يستعملها، وكذلك كرسيه الخاص وسريره الصغير.. لقد استخدم القائمون على المتحف حيلا بصرية بلا شك تدخل على قلب الزائر رهبة عارمة خصوصا أن للموت حقا رائحة.. وأكاد أقسم أن رائحة الموت تسللت إلى أنفى وسكنت مسامى فى تلك اللحظة التى دخلت فيها إلى القبو المدفون به جبران..القبو المسجى به أعظم شاعر فى العالم..هى اللحظة التى تسأل فيها نفسك: كيف تُبلى الأجساد وتنتهى الإنجازات فى تلك اللحظة التى يتوقف فيها الإبداع وتموت دقات القلوب؟.. من بين رائحة الموت وصمت الزمان التقطت أنفاسى من غرفة «ينبوع النبي» التى تنبع منها مياه عذبة من قلب الصخر.

وانتقلنا إلى أحد الغرف الأخرى التى يوجد بها عدد من المخطوطات والدفاتر الخاصة، وكثير من أغراضه الشخصية، ومجموعة من الدراسات التى تناولت فنه وكتاباته وموهبته التى تراوحت ما بين الفرشاة والقلم.


4- رسائل بين خطوطه:

اللافت للنظر فى لوحات جبران مزجها بالطبيعة بكل تجلياتها بما فيها الطبيعة الإنسانية وتقلباتها، الملاحظ أن أغلب اللوحات تجسد صور البشر فى كل الأحوال..وفى كل أوضاعه وهو ما يعبر جبران عادة عنه بمختلف الوجوه..كذلك تراه يركز على روحانية الأشياء ومصدرها وشفافيتها، وعلى جوهر الحياة، مثل الشمس والماء، من دون أن يغفل حالات التأمل والحوار الروحى وحركة الحياة.

هناك أيضا مجموعة صور للمشاهير الذين عاصرهم جبران وتأثر بهم..من النحات الفرنسى رودان إلى الهندى طاغور، ومن الأمريكية مارى هاسكل إلى أمين الريحانى ومى زيادة.. وكذلك أمه وأخته سلطانة..

أمام مدفن جبران فى قلب الصخر والمحفوظ داخل خشب أرز لبنان يصغر الموت  امام ابداعات الشاعر العاشق.. فمن النبى، والأجنحة المتكسرة، إلى الأرواح المتمردة والعواصف ثم المجنون والمواكب.. على هذه الخشبة حفرت كلمات كتبها جبران وصاغها بخط يده وتركها لتبقى شاهدا على إبداعاته ونهايته..لتبقى شاهدا على قبر يعلوه الصدأ ويقف أمامه الزوار وكأنهم يشاهدون نهاية العبقرية على يد الموت..كتب يقول:

« أنا حيّ مثلك وأنا واقف الآن إلى جانبك، فاغمض عينيك والتفت ترانى أمامك»!


5- تراثنا المصرى

بعد تلك الجولة التى أخذتنى إلى أعلى منطقة بلبنان ومنها إلى هذا المتحف الذى سرق عقلى فجعل الأسئلة تدور فى رأسى والأسى يتسلل إلى أفكار وأنا أسأل نفسى..

أين نحن من كل الدول التى احتضنت أدباءها وفنانيها ومثقفيها لتصنع تاريخا عظيما من خلال المتاحف والبيوت الأثرية..

شعرت بالغيرة الشديدة وأنا أرى السائحين يأتون إلى المقبرة من كل صوب وحدب ويدفعون الأموال الطائلة من أجل شراء الهدايا التذكارية التى تحمل توقيع جبران..فأصبح المتحف ليس فقط مجرد تراث وتاريخ بل أصبح مصدر دخل مهم للدولة ومعلماً سياحياً.

عندما قررت مصر أن تكرم الكاتب الكبير نجيب محفوظ وتقيم متحفا له، كانت الجامعة الأمريكية هى التى احتضنت المشروع وتعاونت مع أسرته لترجمة كتبه وأخذت مقتنياته لتصنع متحفا كبيرا له داخل الحرم الجامعى بالتحرير بل قامت بعمل حفل افتتاح دعت إليه كل نجوم المجتمع.. إننا دولة قررت أن تفرط فى تراثها.. حتى أن الأشجار القديمة يتم ذبحها على أيدى المحافظة والقصور القديمة والبنايات الأثرية يتم هدمها وبناء عمارات تحمل قبح الملامح والألوان. فمن ينقذ تراثنا؟