عادل حمودة يكتب: هنا إعلام ألمانيا

مقالات الرأي



■ الإعلانات لا تزيد على 20 دقيقة ولا تقطع البرامج ولا تبث ليلًا والسهرة تبدأ فى التاسعة ليعمل الناس بنشاط فى اليوم التالى

■ طلب الرئيس الألمانى مهلة للرد على صحيفة «بيلد» الصفراء فأجبر على الاستقالة

■ القنوات القومية تمولها الحكومة لكنها لا تقيد حريتها

■ أجر كلاوس كليبر أشهر مذيع سياسى أقل من أجور مقدمى التوك شو فى مصر

■ المهنية والحرية تنقذان الصحف الورقية من الموت بسبب المواقع الإلكترونية

■ وسؤال الرحلة: لو كانت هذه هى الميديا على حقيقتها فما توصيفها فى بلادنا؟


لن ألومك لو كذبت هذه القصة فأنا شخصيا لم أصدقها إلا بصعوبة.

ولد كريستيان فولف فى 19 يونيو 1959 وتخرج فى كلية الحقوق ومارس المحاماة قبل أن يحترف السياسة ويصبح عضوا مؤثرا فى الحزب الديمقراطى المسيحى الحاكم.

شغل فولف منصب رئيس حكومة ولاية سكسونيا ليصبح بعدها رئيسا للبلاد.

والرئيس فى ألمانيا.. لا يملك ولا يحكم.. سلطته مقصورة على تقديم النصح.. وتمثيل بلاده فى القضايا الدولية.. ويختار بالتصويت المباشر من أعضاء المجلس الاتحادى المكون من 1200 عضو.. نصفهم من البرلمان والنصف الآخر من الولايات الست عشرة التى تتكون منها الفيدرالية الألمانية.

تولى فولف منصب الرئيس فى 30 يونيو 2010 واستقال فى 17 فبراير 2012.. أما سبب الاستقالة فهو أنه طلب من صحيفة بيلد الأكثر شعبية مهلة حتى يعود من الخارج للرد على الاتهامات التى وجهتها إليه.

اعتبرت الصحيفة المنتمية لعائلة الإثارة الصفراء أن تأخر رد الرئيس عليها إهانة لا يمحوها إلا استقالته.. وساندتها الصحف السياسية والقنوات التليفزيونية والمنظمات غير الحكومية فقد خالف الرئيس قانون إباحة المعلومات كما أهان حق الشعب فى أن يعرف الحقيقة فى وقتها ودون تأجيل.

وبالفعل استقال الرئيس فاتحا الباب أمام محاكمته جنائيا بدعوى أنه حصل على قروض بفائدة منخفضة وهو رئيس حكومة سكسونيا ولكنه نجا من السجن ليعمل فيما بعد مستشارا قانونيا لشركة الموضة التركية يارجتشى التى شجعها على دخول السوق الألمانية.

وفتحت بيلد النيران من جديد عليه، فالرئيس السابق يتقاضى معاشا سنويا يبلغ 236 ألف يورو مدى الحياة ولا يحتاج إلى ممارسة عمل لا يليق بما كان عليه.

هل لا تزال مذهولا من القصة ولا تصدقها؟

عندك حق.

لكنها.. الحرية التى تتمتع بها الميديا العامة قبل الخاصة فى الدول الديمقراطية.. فمن يدفع هنا ليس من حقه أن يتدخل.. فهو لا يدفع من جيبه وإنما من جيب ممولى الضرائب الذين من حقهم أن يعرفوا حقيقة ما يحدث بدقة وثقة وأمانة.

هذه الميديا لا توصف بأنها حكومية وإنما توصف بأنها قومية.. كل التيارات تتحدث فيها بلا تمييز.. لا تفرق على قنواتها بين شخصيات ممنوعة وشخصيات مقبولة.. بل.. ربما تكون الأولوية للشخصيات المعارضة.. غالبا القضايا الساخنة تبدأ من عندها.

سمعت ذلك مباشرة من كلاوس كليبر أشهر مذيع سياسى فى ألمانيا ونحن نتناول طعام الغذاء بدعوة منه فى كافيه آينشتين المجاور لقناة زد دى أف التى يقدم فيها برنامجه 21 الذى يرمز عنوانه إلى القرن الواحد والعشرين.

بدأ كليبر حياته المهنية مراسلا للصحيفة المحلية لكنه بعد حصوله على الشهادة الثانوية درس القانون وحصل على الدكتوراه فيه.

منذ عام 1986 ولمدة 15 سنة عمل مراسلا للقناة الأولى إيه آر دى فى واشنطن ونيويورك وحاور رؤساء الولايات المتحدة فى تلك الفترة.

فى عام 2003 انتقل للقناة الثانية زد دى أف ليصبح مديرا لفرفة الأخبار وبعد أربع سنوات تخلى عن المنصب وعاد ليطل على الشاشة محققا دخلا سنويا 480 ألف يورو وهو أقل مما يحصل عليه بعض مقدمى التوك شو فى مصر.

قبل الغذاء تجولت معه فى القناة التى تجد فى طابقها الأول ستوديو مفتوحا على كافيتريا تبث منه البرامج الصباحية ويحق للناس متابعتها والمشاركة فيها مباشرة لمدة ساعتين يوميا وكأننا فى برلمان حى يضع الجمهور جدول أعماله.

أما برنامجه الذى لا يزيد على 45 دقيقة فيشتهر بكشف قضايا الفساد بعد التأكد من صحتها، ولذلك يسمى نفسه محققا سياسيا وليس مذيعا.

ولا تقطع البرامج بالإعلانات ولا تبث القناة الإعلانات بعد الساعة الثامنة مساء حتى لا توتر مشاهديها الذين يتابعون فقرات السهرة التى تبدأ مبكرة حتى يناموا مبكرا ويستيقظوا مبكرا ليعملوا فى نشاط فهم فى دولة تقدس العمل وتفرض وجودها بالإنتاج المتميز.

ولكن.. هناك رسوم يدفعها المواطن ليشاهد القنوات العامة وليستمع لمحطات الراديو التى تخضع لنفس التصنيف.. والرسوم قليلة نسبيا.. 18 يورو شهريا.. لكنها.. تشعر المواطن بأن صاحب تلك القنوات والمحطات والمؤثر فيها.

وتصل ميزانية القناتين القوميتين الأولى والثانية إلى 8 مليارات يورو سنويا لا تزيد نسبة الإعلانات فيها (20 دقيقة فقط فى اليوم) على 12 فى المائة ورغم أن القناة الأولى تنال الجزء الأكبر من الميزانية فإن نسبة مشاهدة القناة الثانية أعلى.

وللتاريخ فإن هتلر هو أول من استخدم الراديو فى تحقيق شعبية هائلة ولكنه وضع محطات الراديو تحت الرقابة مثلما فعل فى الصحف وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمته حتى تحررت الميديا بنص صريح فى الدستور يستحيل المساس به.

وليس فى ألمانيا إذاعة قومية مركزية بل سبع محطات متفرقة فى ولايات مختلفة يضع سياستها مجتمع كل محطة ممثلا فى الكنيسة والأحزاب والنقابات والجمعيات الثقافية.

وعندما ظهر التليفزيون كانت تكلفته عالية فنشأت القنوات العامة قبل أن تنشأ القنوات الخاصة التى تعتمد على الإعلانات التجارية فى تمويل برامجها.

ولا تختلف قواعد الميديا باختلاف الملكية فالحرية لا تتغير بتغير الممول.

هنا يضيف كليبر ونحن نتناول الطعام: طبعا لا حرية للميديا دون معلومات يجبر القانون السلطات على تقديمها وإذا تباطأت ذهبنا إلى المحكمة نطالبها بما نريد أن نعرف ولكن فى الحقيقة فإن أهم مصدر للمعلومات التى تصل إلينا هو المواطن العادى الذى لا يقبل السكوت على الخطأ.

وتتكرر قصة الرئيس كريستيان ولف من مسئول فى الحزب المسيحى الاجتماعى المشارك فى حكومة المستشارة أنجيلا ميركل.

فى عام 2014 عرف الرجل أن هناك برنامجا إخباريا سيبث على غير هواه فطلب إيقافه فأحيل إلى التحقيق فهو الذى أخطأ وليس القناة.

بدأ البث التليفزيونى عام 1961 بالقنوات والمحطات القومية قبل أن يجد القطاع الخاص فيها مكسبا يغرى باستثمار أمواله فيها وتحقق لها ذلك بدبلجة الأفلام الأمريكية لتنطق باللغة الألمانية دون تدخل لقص المشاهد مكتملة العرى.

قبل ذلك وبالتحديد فى 3 مايو 1953 أطلقت فى كولونيا إذاعة دويتش فيلة (ومعناها الموجة الألمانية) لتصل إلى المهاجرين الألمان الذين فروا فى سنوات الحكم النازى لتربطهم بوطنهم كما سعت الإذاعة إلى تعريف العالم بصورة ألمانيا الجديدة.

وبجانب الإذاعة بدأ البث التليفزيونى بثلاثين لغة مختلفة منها العربية وبإضافة موقع إلكترونى لنشر المقالات ومركز للتدريب اكتملت منظومة الميديا المرسلة إلى الدنيا كلها.

لقد أصبح العرب هدفا للدول الكبرى يجب الوصول إليه بقنوات تنطق بلغتهم.. قناة روسيا اليوم.. وقناة فرنسا 24.. وقناة الحرة الأمريكية.. بجانب دويتش فيلة.

فى رحلتى الألمانية الأخيرة التقيت المدير العربى الحالى لدويتش فيلة ناصر شروفة ومديرها السابق مصطفى السعيد.

ولد ناصر شروفة فى فلسطين وجاء إلى ألمانيا عام 1994 ليحصل على الماجستير والدكتوراه فى الأدب الألمانى ليحاضر فى جامعة ماينتس قبل أن يتفرغ للعمل الإعلامى فى عام 2005.

ما أن التقينا فى مكتبه حتى بادر بالشكوى من صحف مصرية خاصة اتهمت دويتش فيلة بتلقى تمويل من قطر والانحياز إليها مؤكدا أن ذلك مستحيل تماما، فالميزانية التى تصل إلى 326 مليون يورو تأتى من البرلمان (البوندستاج) ومفوضية الثقافة والإعلام التى تضم بجانب دويتش فيلة معهد جوتة وأكاديمية الفنون والمتاحف ولا يزيد نصيب الميديا العربية منها على 6 ملايين يورو سنويا.

اعتبرت تلك الصحف دويتش فيلة معادية لمصر لترك يسرى فودة يقدم برنامجا سياسيًا وفتح المواقع لمقالات يكتبها علاء الأسوانى وهو ما جعل السفير الألمانى فى القاهرة يصدر بيانا يستنكر فيه ما نشر.

وسبق أن شاركت قناة أون تى فى قناة دويتش فيلة فى برامج قدمتها ريم ماجد كما سبق أن بثت برنامج باسم يوسف بإذن خاص من قناة إم بى سى وهو ما ضاعف من إغراء الهجوم عليها.

يكرر شروفة المقولة الشهيرة فى ألمانيا : ليس هناك إعلام حكومى وإعلام غير حكومى.. الإعلام إعلام يتمتع بكل الحرية بغض النظر عن مصدر تمويله.

ويتكون مجلس إدارة دويتش فيلة من 14 عضوا يمثلون النقابات العمالية والمهنية ومنظمات المرأة والهيئات الثقافية ووزارة الخارجية ولكن لا يتدخل أحد فى التوجيه أو للسيطرة.

ويقول شروفة: الإساءة اللفظية ممنوعة والإهانة محظورة ونحاكم عليها ولكن السخرية ممكنة وتعتبر أعلى درجات الحرية حتى إن هناك من صمم صورة لميركل بالحجاب دلالة على تعاطفها مع اللاجئين القادمين من دول إسلامية.

ويضيف: نحن نخضع لمعايير الموضوعية فى البرامج السياسية بأن نأتى بكل الأطراف معا ولكن المشكلة أننا لا نجد شخصيات مصرية تقبل المشاركة معنا وعرض وجهة النظر الرسمية.

ويستطرد: قد نختلف على تقييم ما نقدم ولكننا لا نختلف على حرية الصحافة ولسنا صيادين للأخطاء ولكننا نبحث عن الحقيقة رغم صعوبة الوصول إليها.

طبعا ليس هناك نظام إعلامى نظيف تماما فهناك الهوى الشخصى واحتمال السقوط فى بئر الإغراء المادى ولو بعيدا عن العيون.

كما أن هناك ثغرة يمكن النفاذ منها للسيطرة الخفية على الميديا وإن ليس لدينا دليل على أن أحدا استغلها.

حسب ما سمعت من مارتن بيزيل سكرتير عام مؤسسة فيستر فيلة وهى مؤسسة بحثية خاصة تحمل اسم وزير الخارجية الأسبق فإنه يحق لهم الحصول على أموال من دول أجنبية ويحق لهم التبرع لمؤسسة إعلامية بصفتهم مؤسسة المانية.

هنا الثغرة التى يمكن النفاذ منها للإعلام.. دولة أجنبية تتبرع لمركز أبحاث.. بشرط أن يوصل جزءا من التبرع لمؤسسة إعلامية.

ويلفت مصطفى السعيد نظرى إلى ما هو أهم.. أن فى ألمانيا يعلمون الأطفال فى المدارس مادة تسمى كومبتنر ليتدربوا من صغرهم على كيفية التعامل مع الميديا بأشكالها الصحفية والإذاعية والتليفزيونية.

والسعيد فلسطينى متزوج من مصرية.. درس فى ألمانيا وحصل على جنسيتها.. وتولى إدارة دويتش فيلة عند بدء إرسالها عام 2005 وظل بها حتى عام 2013 وهو ما أهله للعمل فى سكاى نيوز العربية حتى عام 2016.

وكثيرا ما يدعى للحديث عن دور الإعلام الذى يلخصه فى تقديم معلومات وتعليم وتربية وترفيه وهنا يرى أن الإعلام المصرى يقدم جرعات كبيرة من الرأى على حساب المعلومة وهو ما لا يعطى المشاهد فرصة للتفكير.

ويدير السعيد مركزا خاصا للإعلام فى برلين يقدم المشورة للقنوات والصحف التى تعانى من متاعب بسبب ثورة الإنترنت التى أدت إلى تراجع التوزيع والإعلان إلى حد التهديد بالغلق.

إنها مشكلة صعبة باعتراف رؤساء التحرير والصحفيين الكبار الذين قابلتهم وهم ستيفان أوست رئيس تحرير دى فيلت وبيته زيل مسئول الشرق الأوسط فى صحيفة تاج تسايتونج وكريستيان هوفمان نائب مدير مكتب شبيجل فى برلين وكريستيان بوهمة محرر الشئون العربية فى تاجس شبيجل ومثيله فى زود دويتشه فريد نيكلوس.

فى ألمانيا نحو 350 صحيفة تطبع حوالى 25 مليون نسخة بجانب المجلات مجلات سياسية شهيرة مثل شبيجل وشترن.

استقبلنى ستيفان أوست فى مكتبه شديد التواضع مرتديا ثيابا بسيطة.. كان فرحا بصدور الطبعة الرابعة من كتابه عن منظمة بادر ماينهوف الإرهابية التى اشتهرت فى سبعينيات القرن الماضى وارتبطت بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.. وراح بخبرته الممتدة أكثر من أربعين سنة يحلل الوضع السياسى فى الشرق الأوسط مؤكدا أن متاعب المنطقة لن تتوقف..ودون شمشرجية أخذنى بمفرده فى جولة لقاعة النسخة الإلكترونية التى لا يزيد عدد المشتركين فيها على 100 ألف مشترك.. لكنها.. التحدى الذى يواجه النسخة الورقية.. لكن صحيفته مثل باقى الصحف فى العالم الديمقراطى تواجه التحدى بمزيد من المهنية والحرية.

مرة أخرى أكرر: المهنية والحرية هما السبيل الوحيد لإنقاذ الميديا من متاعبها وهما المصدر الوحيد لثقة الناس فيها.

هنا يكون السؤال البسيط: لو كانت هذه هى الميديا على أصولها فما توصيف الميديا فى بلادنا؟.

شكرا.. سمعت الإجابة.