د. نصار عبدالله يكتب: عن رحيل: حسين نصار

مقالات الرأي



قبل أن يكتمل شهر نوفمبر الماضى، تحديدا فى 29 نوفمبر، وقبل ثلاثة أيام فقط من رحيل صديقى العزيز مكاوى سعيد، رحل أستاذى وصديقى شيخ المعجميين العرب: الدكتور حسين نصار عن عمر يناهز الثانية والتسعين عاما..عندما جاءنى الخبر شعرت بالفجيعة التى يشعر بها المرء عندما يرحل واحد من أحبائه.. طيلة عمرى كان الكثيرون يتصورون أنه واحد من ذوى قرباى الأقربين، وهو شرف لا أدعيه، وإن كانت الصلة بينى وبينه أقوى بكثير من صلة القرابة!، صحيح أنه من أبناء أسيوط وهى نفس المحافظة التى أنتمى إليها: والتى ولد بها فى 25 أكتوبر عام 1925، لكن عائلة نصار بمدينة أسيوط لا تربطها صلة قرابة بعائلة نصار عبدالله التى أنتمى إليها فى مركز البدارى، والتى هى فرع من فروع النواصر أو (آل ناصر) المنحدرين أصلا من مركز إسنا بمحافظة قنا!! ومع هذا فقد كان لى شرف التعرف على سيادته عندما بدأت التردد على التجمعات الأدبية والثقافية فى مصر، وكان من بين تلك التجمعات: «الجمعية الأدبية المصرية» التى أسسها مجموعة من تلاميذ الدكتور حسين نصار وأصدقائه على رأسهم الإعلامى الكبير فاروق خورشيد والشاعر صلاح عبدالصبور والكاتب الإذاعى عبدالرحمن فهمى والناقد عزالدين إسماعيل، والكاتب الإذاعى والمترجم محمد عبدالواحد، والخبير الإعلامى واسع الثقافة والمعرفة السيد الغضبان الذى يكتب حاليا مقالا أسبوعيا متميزا فى جريدة الوفد (كان هؤلاء جميعا طلابا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة عندما كان حسين نصار معيدا بها فى مطلع الخمسينيات من القرن الماضى).. الغريب أن الدكتور حسين نصار التحق فى بداية حياته الجامعية بكلية الطب جامعة الإسكندرية!!، وكان من المقرر لو أنه أكمل دراسته بها أن يصبح طبيبا!! لكنه لم يكمل لسبب غريب هو أنه لم يجد سكنا!!، فقد تبين له بعد قبوله بها أن جميع أقاربه المقيمين بالإسكندرية، والذى كان يأمل فى أن يقيم عند واحد منهم، وهو ما كان يجرى عليه عرف الصعايدة فى ذلك الوقت عندما تضطر الظروف واحدا منهم إلى الإقامة فى بلد ناء عن بلدته الصعيدية، تبين له أن جميع أقاربه المقيمين بها، قد هجروها نتيجة للغارات التى كانت تشنها عليها الطائرات الألمانية وقت استعار الحرب العالمية الثانية!!، وهكذا ترك حسين نصار كلية الطب والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة واختار قسم اللغة العربية فكسبته بذلك المجالات التى تخصص فيها وعلى رأسها الدراسات المعجمية، وإن كان قد خسره بغير شك عالم الطب، لأن عقليته العلمية المرتبة والتى لمستها فيه عن قرب شديد كانت كفيلة فيما أتصور أن تجعل منه واحدا من نوابغ الأطباء فى مصر وربما فى العالم، فأنا لا أشك فى أن مثل هذه العقلية هى ذاتها التى جعلته واحدا من نوابغ الدارسين للغة والتراث العربى.. وقد عمل الدكتور حسين فى أعقاب تخرجه مذيعا بدار الإذاعة المصرية..لكن العمل الإذاعى لم يرق له رغم أنه كان فى تلك الفترة حلما براقا يراود خيال الكثيرين، وفضل العمل كمعيد بالكلية التى درس فيها بمجرد أن أتيحت له الفرصة، وهناك لفت انتباهه تلك المجموعة النابغة من الطلاب الذين ذكرت أسماء عدد منهم منذ قليل والذين كونوا فيما بعد الجمعية الأدبية المصرية التى اتخذت مقرا لها فى أحد البدرومات فى شارع قولة بعابدين وانضم إليهم عدد آخر من الكتاب والنقاد والمبدعين أذكر منهم: عبدالقادر القط، عونى عبدالرءوف، عبدالغفار مكاوى، ميخائيل رومان، عبدالتواب يوسف،، وغيرهم ممن كان بعضهم قد أصبح بالفعل علما من أعلام الفكر والثقافة بينما كان بعضهم فى طريقه لأن يصبح كذلك.. بالنسبة لى كنت طالبا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، عندما بدأت فى مطلع الستينيات أتردد على الجمعية الأدبية وأتعرف على أعضائها الذين كنت لحسن الحظ قد قرأت جانبا كبيرا من أعمالهم المنشورة، ومن جانبى كنت أنشر إبداعى الأدبى فى مجلة الآداب البيروتية كبرى المجلات الثقافية العربية فى ذلك الوقت، وكان من عادتها أن تقدم نقدا للمواد المنشورة فى العدد السابق ضمن باب ثابت عنوانه: «قرأت العدد الماضى من الآداب»، وكثيرا ما كان يتولى نقد الشعر أحد نقاد الجمعية الأدبية، غالبا: د. أحمد كمال زكى أو د. عزالدين إسماعيل، وأحيانا صلاح عبدالصبور نفسه، ومن خلال مشاركتى فى ندوات الجمعية سواء معقبا أو مشاركا أصليا توثقت صلتى بالكثير من أعضائها وانعقدت بينى وبينهم صداقات متينة ما زالت ممتدة إلى يومنا هذا مع من ما زال منهم على قيد الحياة، وعلى رأس هؤلاء أستاذنا الراحل الجليل: حسين نصار الذى تعلمت منه كثيرا وما زلت أتعلم حتى بعد رحيله، منذ أن قدر لى أن أقرأ كتابه الرائع «نشأة الكتابة الفنية فى الأدب العربى» منذ أكثر من نصف قرن من الزمان.