قراءة في أوراق وديع فلسطين وتحية للمثقف الموسوعي

الفجر الفني

وديع فلسطين
وديع فلسطين


يشكل الكاتب المصري الكبير وديع فلسطين نموذجا فذا "للمثقف الموسوعي" المتعدد الاهتمامات بقدر ما جمع بسلاسة ما بين "الأصالة والمعاصرة" وبين "التناول العميق والجاد وخفة الظل والطرائف".

ووسط أقوى عبارات الاستنكار من جانب الجماعة الثقافية المصرية لحادث اعتداء تعرض له مؤخرا هذا "الأب الثقافي" في بيته تتواصل التحقيقات لكشف ملابسات الحادث، كما تتواصل الصحافة ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت التعليق عليه وتناول جوانب من حياة هذا المثقف المصري الكبير والمتعدد الاهتمامات والمواهب.

ووديع فلسطين الذي ولد عام 1923 في مركز أخميم بصعيد مصر عمل أستاذا بقسم الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة على مدى عقد كامل حتى عام 1957 وهو القسم الذي تخرج منه عام 1942 وتنوعت كتاباته ومؤلفاته ما بين الصحافة والأدب واللغة والاقتصاد والسياسة ليتجاوز عدد كتبه الـ 40 كتابا وصدر أولها بالعنوان الدال :"قضايا الفكر في الأدب المعاصر".

وقد تتجلى بعض ملامح شخصيته الصريحة عندما يقول :"نشأت في أسرة متواضعة" موضحا أن "ارتفاع مصاريف الدراسة العلمية حال دون دراسة الصيدلة" التي كان يتطلع لها فيما عمل وهو طالب بقسم الصحافة في الجامعة الأمريكية كمساعد لأمين المكتبة مقابل إعفائه من جزء من مصاريف الدراسة.

وأتاحت الصحافة لوديع فلسطين التعرف على شخصيات ثقافية وأدبية مهمة مثل الشاعر خليل مطران فضلا عن اتصالات واسعة بالأدباء والكتاب في مصر والعالم العربي وشعراء المهجر في البرازيل والأرجنتين وأمريكا الشمالية الذين يحتفظ برسائل بعضهم منذ أربعينيات القرن العشرين.


وواقع الحال أن علاقة وديع فلسطين مع "شاعر القطرين" خليل مطران كانت تعبر عن تفاعل ثقافي عربي خلاق حيث ارتبط هذا المثقف المصري أيضا بعلاقات وثيقة مع مثقفين من لبنان أو من كانوا يوصفون "بالأدباء الشوام" مثل فؤاد صروف وفارس نمر ونيقولا الحداد وخليل ثابت وابنه كريم ثابت وانطون الجميل ونجيب كنعان وقد اسهموا بإيجابية في إثراء الصحافة والثقافة في مصر.

ويقول وديع فلسطين عن هؤلاء "المثقفين الشوام" إن أغلبهم كان يقيم في حي "الفجالة" أو "الظاهر" و"السكاكيني" دون أن يغفل ذكر الأديبة الكبيرة مي زيادة وصالونها الثقافي الشهير في القاهرة بنجوم ذاك الزمان مثل أحمد لطفي السيد وعباس العقاد أو يتنازل عن طرائف تعكس خفة ظله مثل قصة زواج أحد "الأدباء الشوام" وهو إلياس خليل بالفنانة الشهيرة بديعة مصابني بعد وفاة زوجها الفنان الكبير نجيب الريحاني ليمتطي هذا الأديب الرقيق الحال "سيارة فارهة بسائق".

وبحكم اهتماماته اللغوية العميقة وأسلوبه السردي البالغ الأناقة انتخب وديع فلسطين عضوا في مجمعي اللغة العربية بسوريا والأردن كما ذاع صيته الأدبي واللغوي في العالم العربي وهو من المثقفين المصريين الذين انتبهوا مبكرا للموهبة الروائية للنوبلي نجيب محفوظ وتنبأ له بالوصول إلى الشهرة على مستوى العالم.

 

ويقول وديع فلسطين إنه نشر بعد تخرجه من الجامعة مسرحية مترجمة لأديب سويدي ضمن إصدارات "لجنة التأليف والترجمة والنشر" برعاية الأديب عبد الحميد جودة السحار وبات يتردد على اجتماعات هذه اللجنة كل يوم ثلاثاء حيث تعرف على نجيب محفوظ وصديقه الكاتب عادل كامل فضلا عن الأديب الكبير احمد باكثير.

وهكذا كتب وديع فلسطين في تلك السنوات البعيدة من أربعينيات القرن الماضي خمس مقالات عن نجيب محفوظ معتبرا أن روايته "رادوبيس" لو قدر لها أن تترجم للغات أجنبية فلعلها تقف على ذات مستوى الروايات العالمية الشهيرة واستمرت الصلة بينهما قوية رغم أن وديع فلسطين لم يكن ضمن "شلة الحرافيش الشهيرة والتي ضمت نجيب محفوظ واقرب أصدقائه".

و"المثقف الموسوعي" وديع فلسطين والذي يعد من "أساطين الترجمة" شارك في إصدار موسوعات مهمة مثل "الموسوعة العربية الميسرة" و"موسوعة أعلام مصر والعالم" وهو أيضا صاحب كتاب "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره" الصادر في جزءين ليسجل علاقاته بنحو 100 من أعلام الثقافة والأدب في مصر والعالم العربي والمهجر.

ومع أنه كتب في كل فنون الكتابة فإن وديع فلسطين يعتز بالترجمة ويقول " الترجمة بالنسبة لي كانت طوق نجاة لأنني مررت بفترات طويلة بلا عمل فكانت الترجمة ملاذي الوحيد وأنقذتني من السؤال".

وقبل نحو شهرين كان وزير الثقافة حلمي النمنم قد زار الكاتب وديع فلسطين وقدم له درع الوزارة في تكريم رسمي لهذا المثقف المصري الكبير الذي وصفه العلامة الدكتور الطاهر مكي قبيل رحيله في الخامس من أبريل الماضي بأنه "من أصحاب الأساليب والبراعة في الصياغة والترجمة الأدبية الأنيقة"، معتبرا أنه "أكبر وأهم صحفي مصري وعربي الآن".

ويجسد وديع فلسطين فكرة التوفيق بين "الأصالة والمعاصرة" وهو الذي جمع ما بين التعمق في الثقافة العربية وتراثها وبين الإبحار في الثقافة الغربية وجديدها ومن ثم فقد وصفه الكاتب والناقد الكبير الراحل أنور الجندي بأنه "جمع بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب على هدي وبصيرة".

وفيما تنتمي أسرته لبلدة نقادة في محافظة قنا عمل وديع فلسطين بين عامي 1945 و1952 في مجلة المقتطف وجريدة المقطم التي ترأس القسم الخارجي فيها كما كان كاتب مقالتها الافتتاحية اليومية وله مئات المقالات ذات المضمون الثقافي والأسلوب الأنيق في الصحافة المصرية والعربية.

 

ولا ريب أن وديع فلسطين في رحلته الثقافية المديدة يعبر عن "حيوية مصر الثقافية واهتماماتها وشواغلها الفكرية منذ أربعينيات القرن الماضي" وهو الذي أسس مع الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي "رابطة الأدباء" كما كان عضوا مؤسسا في "رابطة الأدب الحديث"، فضلا عن عضويته في اتحاد الكتاب ونقابة الصحفيين المصريين التي يعد أكبر أعضائها سنا وحظي من قبل بتكريمها.

ومن أصدقائه المقربين الذين رأى أنهم لم يحصلوا على التقدير الكافي في حياتهم الشاعر إبراهيم ناجي والعلامة الأديب الراحل حسين مجيب المصري وهو كما يصفه "أحد علامات الآداب الشرقية وقام بالتأليف والترجمة في هذه اللغات" وكذلك محمد مصطفى خفاجي الذي كان من خريجي الأزهر الشريف ومتخصصا في الأدب وترك أكثر من 100 كتاب وكان رئيسا "لرابطة الأدب الحديث".

وفيما يمكن بسهولة إدراك مدى ثراء الحياة الثقافية المصرية والعربية عبر مجلات ثقافية شارك فيها وديع فلسطين بقلمه وفكره فإن تاريخ الصحافة الثقافية يسجل له نجاحه في تحويل مجلة "قافلة الزيت" التي تولى مسؤوليتها عام 1956 وكانت تصدر عن شركة أرامكو للنفط من مجرد نشرة للعلاقات العامة إلى منبر ثقافي عربي رفيع المستوى تكتب فيه شخصيات ثقافية وأدبية في حجم عباس محمود العقاد.

والمجلات الثقافية المصرية العتيدة التي أسهم فيها وديع فلسطين ومن بينها المقتطف والهلال كانت تشكل منبرا مفتوحا لكافة الآراء واهتمت بقضايا كبرى مثل تحديد هوية مصر والتركيبة النفسية والعقلانية والذوقية للمصريين ليدلي مثقفون كبار مثل الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم وزكي مبارك وإبراهيم عبد القادر المازني بدلوهم في تلك القضايا المهمة.

ولم تكن القضايا المهمة تعني التجهم الثقافي أو تحول دون معالجات ثقافية وأدبية طريفة مثل ذلك الطرح بعنوان "الأدباء والحيوان" الذي قال فيه الكاتب المصري الكبير وديع فلسطين أنه ما دام الأدب نافذة تطل على الحياة بكل ما فيها فقد تعامل الأدب مع الحيوان بأساليب شتى معيدا للأذهان أن الأديب الراحل توفيق الحكيم مثلا اختار الحمار ليكون فيلسوفه الناطق بلسانه والمعبر عن آرائه والمحاور الذي لا يمل من الحوار معه.

 

وبأسلوب يجمع ما بين خفة الظل والجدية يضيف وديع فلسطين أنه عندما أصدر الكاتب طاهر الطناحي كتابه "حديقة الأدباء" آثر أن يصور توفيق الحكيم في صورة عصفور ربما استيحاء من روايته "عصفور من الشرق" لافتا إلى أن طاهر الطناحي أقدم على محاولة غير مسبوقة في هذا الكتاب حيث اختار لكل أديب، حيوان أو طائر يناسبه.

وهكذا فطه حسين "كروان" وعباس محمود العقاد "عقاب" والعالم الأديب احمد زكي "ديك" وعزيز أباظة "بلبل" والشاعر إبراهيم ناجي "سنجاب" وأحمد لطفي السيد "نسر" والشاعر اللبناني ميخائيل نعيمة "طاووس"، وفكري أباظة "بولدوج" ومحمود تيمور "هدهد" وأمير بقطر "أبو قردان".

أما أحمد رامي ففراشة وأمينة السعيد "زرقاء اليمامة"، وأحمد أمين "مالك الحزين" ربما لأنه لم يكن يعرف الابتسام كما يقول الكاتب الكبير وديع فلسطين معيدا للأذهان أن العقاد قد ذهب إلى شيء من هذا عندما قرر عقد ندوته الأسبوعية في بادىء الأمر بجزيرة الشاي في حديقة الحيوان بالجيزة.

والمفكر العملاق عباس محمود العقاد الذي وصف وديع فلسطين "بالأديب المكين" كان يطيب له أن يداعب رواد ندوته بتشبيه كل منهم بحيوان بعينه اعتمادا على فراسته في المطابقة بين حيوان معين وواحد من رواد الندوة وقد بدأ العقاد بنفسه واختار أن يكون زرافة وأحسن الاختيار كما يرى وديع فلسطين.

فالعقاد يضيق بالأقفاص والسدود والقيود ثم إنه فارع الطول كالزرافة تماما أما الشاعر عبد الرحمن صدقي وكان بدوره طويلا عريضا فقد جعل العقاد منه "بطريقا" أو "نيجوين" وهو طائر يمشي منتصبا مختالا مرفوع الرأس.

أما الكاتب الكبير علي أدهم فكان نصيبه عند العقاد الإبداع في قفص الضبع في حين اختار للموسيقار محمد حسن الشجاعي وكان ضخم الجثة تقمص شخصية "فرس البحر" الذي يعرف باسم "سيد قشطة" بينما أودع الكاتب عصام الدين حفني ناصف المعروف بأفكاره الاشتراكية والماركسية قفص الدب القطبي الروسي تماشيا مع مذهبه السياسي حينئذ.

وأغلب هذه الأسماء الكبيرة في الثقافة المصرية والعربية عرفها وديع فلسطين كما عرف أحمد حسن الزيات صاحب ورئيس تحرير مجلة "الرسالة" الشهيرة في التاريخ الثقافي المصري والعربي فضلا عن المفكر المصري سلامة موسى وساطع الحصري السوري الأصل والذي يعد من رواد الفكر القومي العربي ناهيك عن الأديب اللبناني بشر فارس.

والطرافة تتجلى أيضا إلى جانب عمق التناول في سلسلة مقالات كتبها وديع فلسطين في مجلة "الأديب" التي كانت تصدر في بيروت بعنوان :"الأدب والأحذية" وبحث فيها عن كل ما يخص النعال في الأدب القديم والحديث أما فكرة هذه المجموعة من المقالات فهي دعوة الأدباء والمفكرين لعدم التحول "لأبواق".

وقال وديع فلسطين إنه استوحى هذه الفكرة من قصيدة لصديقه الشاعر الراحل نزار قباني قال فيها :" إذا أصبح المفكر بوقا يستوي الفكر عندها والحذاء..أنا حريتي وإن سلبوها تسقط الأرض دونها السماء".

ووديع فلسطين بإرثه الثقافي المتسامح ومنظوره التنويري الذي يبغض التطرف والجمود الفكري يدعو في المقابل بطبيعته المصرية السمحة "للاعتدال في كل شيء" ولعله كصحفي كبير القيمة وعالي القامة يعبر عن حقيقة أن الصحافة ضرورة اجتماعية وثقافية وسياسية وعنوان لثقافة أي شعب ومنظومة قيمة في الحياة.

وإذ يأمل كل المثقفون في تعافي هذا الأب الثقافي المصري من آثار الاعتداء، فإن وديع فلسطين يبقى متوهجا في قلب مصر وضميرها ومحروسا بشعبه وبني وطنه..فتحية لمثقف موسوعي هو قبس من روح مصر الخالدة وأمثولة للإخلاص والعطاء وعشق تراب الوطن.