عادل حمودة يكتب: عمرو موسى يرقص على جثمان أسامة الباز

مقالات الرأي



■ "كتابيه" مذكرات من البطولة الوهمية المؤجلة فى المواجهة بعد اختفاء الأبطال بالموت أو الرحيل عن السلطة

■ كان موسى يطارد الباز تليفونيا ليضمن اختياره وزيرًا للخارجية حتى لا ينال المنصب عبد الرءوف الريدى

■ فى آخر مهمة لموسى فى واشنطن اكتفى بإطلاق النكات بينما تحدث إلينا عمر سليمان عن عما جرى فى المفاوضات بين مبارك وبوش

■ ارتباط الباز بالنخبة المثقفة عالج أزمات النظام مع الفنانين والصحفيين وفى القرية النوبية تلقى من وحيد حامد وأنا كيفية التخلص من قانون اغتيال الصحافة


كثيرًا ما تناولت الغداء مع عمرو موسى وصهره رجل الأعمال مجدى أبو سمرة فى مطعم الكبابجى المطل على نيل فندق سوفتيل.

وأشهد أنه كان يفضل الطعمية والباذنجان المقلى بالخل والثوم على الكباب المشوى على الفحم.

ولا شك أنه نجم من نوع خاص سوبر ستار يقبل الناس عليه من جنسيات مختلفة ليسألوه عن حدث جارٍ أو ليلتقطوا معه صورة سيلفى.

وعندما فكر فى كتابة مذكراته لم أتردد فى تقديم النصح فى التفاوض على حقوقه المادية التى يجب أن يحصل عليها من نشر الكتاب بجانب حقوق النشر الصحفى.

وما إن أمسكت بنسخة من المذكرات حتى صدمت فقدت بدت أنها صياغة شخص آخر غير عمرو موسى بدليل وجود اسم خالد أبوبكر تحت مهمة: تحرير وتوثيق داخل الكتاب وليس لهذه العبارة من معنى سوى أن عمرو موسى أفضى بما عنده وغيره كتب.

وليس غريبا وجود كاتب لمذكرات المشاهير الذين لا يملكون أسلوبا جذابًا لعرضها.. وأحيانا.. يختفى اسم هذا الكاتب الذى يسمى جوث ريتر.. أو الكاتب الشبح.. وسر اختفاء الاسم هو ألا يشعر القارئ بأن المذكرات عن صاحبها وليست له.

وفى مصر كثير من الكتاب الشبح.. محمد حسنين هيكل كتب فلسفة الثورة دون وضع اسمه عليها.. ومحمود عوض كتب مذكرات سيد مرعى «أوراق سياسية» دون إشارة إليه.. وكتب الدكتور رشاد رشدى كتاب السادات: «البحث عن الذات» ولم نعرف ذلك إلا من الكواليس.. بل أنا نفسى كنت جوث ريتر لمذكرات محمد نجيب: كنت رئيسا لمصر.

لقد سجلت عشرات الشرائط لنجيب وعندما انتهيت من صياغة المذكرات قرأتها عليه ووقع عليها صفحة صفحة لتكون مسئوليته عنها كاملة.

لكننى تصورت من براعة عمرو موسى فى الكلام وموهبته التى يتحدث بها فى الخطابة أن يكتب بنفسه مذكراته.

لكن.. يبدو أن ذلك لم يحدث.. وهو ما ينقل ما نشره عمرو موسى تحت عنوان كتابيه من كتب المذكرات إلى كتب الذكريات وبينهما فارق فى القيمة لا يدركه كثيرون.

لو كان عمرو موسى راجع مذكراته بدقة ودون تعجل اشتهر عنه ما كان قد أفرط فى النرجسية التى تفجرت فى كثير من صفحاتها.. كان سيسمع صوت نفسه وهو يكتب.. فلا يقبل بوصف نفسه بالدبلوماسى المحترف ولو كان كذلك.. ولا ينشر ما سمع من حكايات دون التحقق منها.. ولا يسارع بإصدار أحكام طائشة عن شخصيات سياسية غابت عن الحياة ما كان لينطق بها لو كانت على قيد الحياة وعلى رأسها أسامة الباز.

لم يكن عمرو موسى ليجرؤ على أن ينشر عن أسامة الباز ما كتب فى وجود هذا السياسى والدبلوماسى والمثقف الشهير.

لقد كان أسامة الباز يمتلك قدرات عقلية وذهنية حقيقية تبتعد عن القدرات التمثيلية الوهمية التى عرفت عن غيره.

كان أسامة الباز يقدر على الدخول فى حوار مع أكثر من شخص وهو فى الوقت نفسه يكتب تقريرا للرئيس عن رحلة قام بها أو مشكلة يقدم حلا لها.

ولعل وجوده فى مباحثات كامب ديفيد دليلا على ذلك، فقد حضر الجلسات المغلقة على أنور السادات ومناحم بيجن وجيمى كارتر بصفته مسجلا لما يقال ودون تدخل منه فى حين أنه اتفق مع السادات على إشارة ما للاعتراض هى أن يكف عن الكتابة فيرفض السادات ما يعرض عليه وهو أمر صعب احتاج منه التحكم فى أعصابه حتى لا يتوقف عن الكتابة من التعب فيفهم السادات الإشارة خطأ.

ووصل تشدده فى كامب ديفيد إلى حد تصور كارتر أنه قتل السادات وعندما اقترب كارتر من الكوخ الذى يقيم فيه السادات وجده يستمع لتسجيلات جاء بها من مصر عليها أغانى فريد الأطرش.

ولم يكن موقف أسامة الباز وليد لحظتها وإنما تكون من خبرات سياسية اكتسبها من عمله فى مكتب هيكل وقت أن كان وزيرا للإعلام.. ومسئوليته عن لجنة العلاقات الخارجية فى منظمة الشباب مع بداية سبعينيات القرن الماضى حين بدأت علاقتى به واستمرت نحو 40 سنة.. بجانب دراساته العليا فى جامعة هارفارد والتى لم تكتمل بمناقشة رسالة الدكتوراه.

ويروى عمرو موسى أن أحد الصحفيين المقربين من السادات سأله: لم الحيرة فى اختيار وزراء الخارجية ولديك أسامة الباز؟ فأجاب السادات: إن أسامة الباز لا يصلح وزيرا للخارجية بسبب إهماله فى ملبسه.

لم يوثق عمرو موسى اسم الصحفى ولا تاريخ الواقعة التى شاعت ونالت تفاصيل مختلفة منها أن السادات لم يقبل بأسامة الباز وزيرا للخارجية لقصر قامته وهو ما يهين السادات الذى يعين وزراؤه حسب المظاهر الشكلية.

وكل ما قيل من باب النميمة لم يكن ليليق بدبلوماسى محترف مثل عمرو موسى التورط فى نشرها فالوقائع السمعية غير المحققة وهى كثيرة تنال من مصداقية مذكراته وتخفض قيمتها وتشكك فى اعتبارها مصدرا للتأريخ بل يجعل منها ثرثرة منتفخة الذات تكاد تنفجر وتفجر صاحبها معها.

وأكاد ألمح غيرة عمرو موسى من أسامة الباز وهو يصفه بشخصية غريبة الأطوار.. يحب أن يعطى إشارة للعامة عن بساطته فيركب المترو أو أتوبيسا عاما وهى أمور كان يشعر أنها تجعله شخصية قريبة من الناس أما فى الحقيقة فقد كان محبا للحياة الحياة الدبلوماسية والمجتمعية الغنية بمباهجها.

لم يستوعب عمرو موسى تواضع أسامة الباز واعتبر ركوب المترو تمثيلية تخالف حقيقته المحبة للحياة المترفة دون أن يستوعب عمرو موسى فضيلة التواضع التى كان يتمتع بها أسامة الباز.. فقد تخلص من سيارته القديمة «ريجاتا بيضاء» واستخدم المواصلات العامة.. وكان يقف فى طابور الجوازات وهو عائد من الخارج.. وعندما كنا نتناول العشاء معه كان كثيرا ما يطلب طبقا من اللب الأبيض أو يتناول قطعا صغيرة من رغيف خبز بلدى أمامه.. واعتقد أن مئات الأصدقاء الذين ارتبطوا به يشهدون على ذلك دون أن يصلهم شعور بأنه يمثل عليهم.

أكثر من ذلك.. عندما أجرى عملية القلب المفتوح فى الولايات المتحدة لم يخبر أقرب الناس إليه ( ابنه باسل ) إلا بعد نجاحها.. ولم يكتشفها باسل إلا بعد أن طلب منه والده ألا يحتضنه بقوة حتى لا يتألم من جرح شق الصدر الذى تفرضه تلك الجراحة الحرجة.

ولولا أنه اضطر لوضع باروكة على رأسه بعد سقوط شعره من تناول الكيماوى لما عرفنا إصابته بالسرطان وكان يختفى فى أحد الفنادق وهو يتناول الكيماوى حتى لا يرى أحد سوى صديقه رجل السياحة المعروف على عبد العزيز أوجاعه.

وفى سنوات عمره الأخيرة زرته أنا وزوجتى فى شقة بسيطة بمنطقة المعادى الجديدة ولم ينتقل منها إلا بعد أن اشترى له ابنه فيللا فى القاهرة الجديدة فلم يكن ليملك سوى معاشه الضئيل من رئاسة الجمهورية الذى لم يتجاوز الألف جنيه.

وقبل معاناة الزهايمر الذى أصابه نشرت على لسانه رفضه الشديد لكتابة مذكراته مؤكدا أن ما عنده من أسرار لا يجوز المتاجرة بها ولو خلت مذكراته مما يعرف فإنها ستكون مجرد ثرثرة على مسرح عجز أبطاله «من زعماء أو سفهاء» بفعل الموت عن الرد أو عجزوا بفعل حساسية مناصبهم عن مناقشة ما ينشر عنهم.

بل.. إنه كان يرفض رغم صلتنا الوثيقة أن يكشف عما خفى فى أحداث عاشها أو شارك فى صنعها تاركا غيره يكشف عن دوره فيها وهو ما قرأناه فى كثير من الكتب الأمريكية التى تحدثت عن دوره فى كامب ديفيد والاتصالات المصرية الأمريكية ومشاركة عمر سليمان مدير المخابرات فى المصالحة الفلسطينية والحد من شطحات الرئيس الليبى معمر القذافى.

وكان بديل المذكرات عنده كما نشرت فيما قبل نشر كتيبات صغيرة للدبلوماسيين الشباب ينقل لهم من خلالها خبرته المهنية العريضة.

وعندما كان عمرو موسى فى نيويورك مسئولا عن بعثتنا الدبلوماسية فى الأمم المتحدة لم يكن ليكف عن الاتصال بأسامة الباز وكان يقيم وقتها فى فندق شيراتون الجزيرة ليضمن اختياره وزيرا للخارجية وكان المرشح الأكثر ترجيحا هو السفير عبد الرءوف الريدى ويشهد على هذه الاتصالات على عبد العزيز.

كان أسامة الباز يكرر جملة واحدة: خلاص يا عمرو سيبلى الموضوع ده.

ورد عمرو موسى الجميل بأن اعترض على دفع فواتير طعام طلبه أسامة الباز ذات مرة من مطعم الكبابجى.

بل فيما بعد رفض تجديد جواز السفر الدبلوماسى لباسل نجل أسامة الباز الوحيد وكان يدرس فى الولايات المتحدة.. بل ألغى منصب قنصلنا العام فى سان فرانسيسكو عندما أبدت والدة باسل السفير مها فهمى التى قبلت تخفيض درجتها الدبلوماسية بقبول المنصب الأقل لتكون قريبة من ابنها حسب ما سمعت منه شخصيا.

ويأخذ عمرو موسى على أسامة الباز وجوده فيما اسماه الطبقة المثقفة فى حين أن ذلك التواجد كان ميزة إضافية إليه نجح بها فى حل كثير من الأزمات الحادة التى ورط فيها النظام نفسه.. مثل أزمة قانون النقابات الفنية الذى أدى إلى اعتصام الفنانين وإضراب تحية كاريوكا عن الطعام.. ومثل قانون الصحافة الذى أشعل نقابة الصحفيين وجعل جمعيتها العمومية فى حالة انعقاد دائم.. وقد التقينا وحيد حامد أنا أسامة الباز فى القرية النوبية «فندق ميريديان القاهرة» ووضعنا سيناريو الخروج من الأزمة الأخيرة.

والمؤكد أن مبارك ترك لعمرو موسى مساحة تحرك كبيرة فى السياسة الخارجية لكن دون تقليص من دور أسامة الباز كما يكتب عمرو موسى بل إن مبارك أضاف عمر سليمان «مدير المخابرات العامة» إلى الدائرة الضيقة التى تصنعها وبخروج عمرو موسى من الوزارة تصاعد دور عمر سليمان فى هذا الشأن حتى يمكن القول إنه انفرد به.

وعلى خلاف ما يكتب عمرو موسى فإن عمر سليمان لم يكن معجبا به كثيرًا والدليل على ذلك ما حدث فى واشنطن عام 2001.

فى ربيع ذلك العام كنت أغطى رحلة مبارك إلى واشنطن وكان معروفا أنها الرحلة الأخيرة لعمرو موسى بصفته وزيرًا للخارجية ودعا وزير الإعلام صفوت الشريف رؤساء التحرير على عشاء مع الفريق الرئاسى فى مطعم أوليف ولاحظت لأول مرة أن عمر سليمان حريص على أن يتحدث قبل عمرو موسى عن المفاوضات التى جرت فى البيت الأبيض ما جعلنا نمسك بأوراق المطعم ونكتب عليها ما يصرح به بينما لم نسمع من عمرو موسى سوى نكات عن المرأة والجنة أكملها سمير رجب بمزيد من عنده.

ولا أجد مبررا لأن يردد عمرو موسى ما أشيع عن زواج أسامة الباز من فنانة شهيرة فهو إن صح يعد تدخلا فى الحياة الخاصة تنتقد الصحف بشدة إذا ما تورطت فيه فما بالنا بمذكرات وزير خارجية وأمين عام للجامعة العربية احترمنا ما نعرف عن شئونه الشخصية فهل يسمح لنا بعدما نشر أن نرصدها وننشر ما نعرفه عنها؟.

إن عمرو موسى فى مذكراته بطل بأثر رجعى.. بطل لا يعرف التحدى.. فالتحدى يفترض وجود خصم والخصم هنا يرقد تحت التراب.

وهنا أقتبس من نزار قبانى: إن المواقف المعلنة فى غير وقتها مواقف لا قيمة لها لأن الناس تنتظر من صاحبها أن يضىء لهم حاضرهم وإدراكهم السياسى وقت وقوع الحدث وفى فترة وجود وقوة وسلطان ونفوذ المسئول لا أن يكتب قصيدة هجاء ضد رمسيس الثانى بعد مرور خمسة آلاف سنة على وفاته.