أحمد فايق يكتب: القاهرة 2018

مقالات الرأي



هل تنجح الدولة فى نقل 16 وزارة إلى العاصمة الإدارية قبل 30 يونيو 2018؟

■ مجمع التحرير يتحول «فندق» والنواب والمبانى التاريخية «متاحف» 

■ هدم بعض المبانى الحكومية المتهالكة وتحويلها إلى طرق ومحاور مرورية

■ تحويل بعض المبانى إلى نوادٍ وجراجات خاصة وعامة 

■ تكلفة إعادة تأهيل القاهرة أكبر بكثير من تكلفة إقامة مدينة جديدة

لا أحد يعرف هذه المدينة الغريبة، قادرة على أن تجذبك إلى غرامها فى دقائق معدودة، وبعدها بثوان لا تتوقف عن سبها، القاهرة هى المدينة التى لا تستطيع أن تعيش خارجها وفى نفس الوقت لا تتوقف عن لعنتها، عشاق القاهرة من أمثالى لا يجيدون الاستمتاع بها إلا بعد منتصف الليل، فالقاهرة مدينتان ودولتان، مدينة صباحية يقطنها الموظفون وأصحاب المصالح فى الجهات الحكومية، ومدينة مسائية يعيش فيها الحالمون، شوارع القاهرة بعد الثالثة فجرًا لا تقل فى بهائها عن شوارع باريس، كل مبنى فيها له تاريخ، القاهرة أجمل مدينة فى الدنيا يوم الجمعة قبل الصلاة وفى الأعياد، لأنها تخلو من نصف سكانها تقريبا. 

القاهرة تفقد رونقها كلما ازداد عدد السكان فيها، وكلما قلت الخدمات فى الطرق والصحة والتعليم، أزمة القاهرة ليست جديدة، وكل مشروعات التوسعات العمرانية التى تمت لم تنجح كثيرا فى جذب سكان القاهرة إلى الخارج، لكن قبل السكان العيش على أطرافها مثلما حدث فى أكتوبر والشيخ زايد وطريق الإسكندرية الصحراوى والتجمع الخامس. 

لقد وضعت لجنة سياسات جمال مبارك مخططًا للقاهرة فى ٢٠٥٠ كان المخطط يعتمد بالكامل على القاهرة التقليدية التى نعرفها، مع إقامة محاور مرورية دائرية حولها وشبكة مترو الأنفاق، وإعادة تطوير العشوائيات هذا المخطط كان سيكلف الدولة ٤٠٠ مليار جنيه، وقتها كان الدولار بـ ٥ جنيهات ونصف الجنيه أى حوالى ٧٥ مليار دولار، وهو رقم ضخم جدا إذا كان نتاجه هو تطوير وإعادة هيكلة القاهرة الكبرى بنفس عدد السكان الذى وصل إلى ١٨ مليونا بالإضافة إلى الزائرين من المحافظات الأخرى للمصالح الحكومية  ويصل عددهم تقريبا إلى ١٠ ملايين زائر يوميا تقريبا. 

القاهرة هى النموذج الواضح لأزمة المدن الكبيرة فى مصر كلها، لكنه الأكثر توحشا، فقد ضاقت المدن مساحة على أهلها، ولم يعد هناك مساحات للتوسع العمرانى لاستيعاب الأجيال الجديدة، طلب الرئيس السيسى دراسات لرفع كفاءة المدن وتحويلها إلى مدن بمواصفات عالمية تعمل بالطاقة المتجددة معزولة حراريا فيها كابلات الإنترنت فائقة السرعة والتى تصل إلى ٢٠ ميجا بايت، كلها تخضع للكابلات التليفزيونية، شبكة البنية التحتية فيها ذكية قائمة على غرفة تحكم مركزية تمنع العشوائية والسرقة وتصلح الأعطال. 

أجريت الدراسات ووصلت إلى نتيجة واحدة وهى أن رفع كفاءة المدن وتحويلها إلى المواصفات العالمية أكثر تكلفة من بناء مدن جديدة...! 

النتيجة ليست صادمة لأن فى بناء مدن جديدة حلا شاملا لكل الأزمات، أولا: على مستوى الأمن القومى هو توسعات عمرانية فى مناطق مثل سيناء وتوزيع للسكان على مساحة مصر، ثانيا: هى ميزة عظيمة لتعمير الصحراء وإقامة مجتمعات زراعية وعمرانية جديدة، ثالثا: تخفيض عدد سكان المدن الرئيسية إلى النصف تقريبا وبالتالى حل جزء كبير من المشاكل المرورية وغيرها. 

 العاصمة الإدارية الجديدة تعنى بالنسبة لسكان القاهرة الكبرى التخلص من زحام ٨ ملايين مواطن بالإضافة إلى ١٠ ملايين زائر للجهات الحكومية، وتعنى بالنسبة لـ٨ ملايين مواطن انتقالا إلى مجتمع أكثر تطورا وعلى أحدث الطرازات فى العالم كله. 

الحى الحكومى فى العاصمة الإدارية على مساحة ألف فدان، وتشمل المرحلة الأولى ١٦ وزارة، ويقام فيه مجمع خدمات تكنولوجية على أحدث طراز فى العالم، وهناك رغبة حقيقية فى بداية انتقالات الوزارات إلى الحى الحكومى بالعاصمة من شهر يناير المقبل، وتم الانتهاء بالفعل من بناء نسبة كبيرة منه، على أن يتم الانتقال بالكامل فى ٣٠ يونيو ٢٠١٨ وتحديدا مع عيد الثورة وفى نهاية فترة حكم الرئيس السيسى الأولى، هذا يعنى انتقال تقريبا ملايين الموظفين إلى مجتمعات عمرانية جديدة، وتخفيف الضغط على القاهرة. 

عدد المبانى الحكومية فى القاهرة لا يقل عن ٢٠٠ مبنى على آلاف الأفدنة، هذه المبانى من المتوقع أن يتم تقسيمها إلى ثلاث فئات: مبان ذات قيمة تاريخية كبيرة مثل مجلس النواب وتتحول إلى متاحف، ومبان تصلح للتحويل إلى فنادق حق منفعة محدد المدة مع الحفاظ على الطابع المعمارى للمبنى مثل مجمع التحرير، ومبان ليست لها قيمة تاريخية ويمكن هدمها، وفى هذه الحالة سيتم استخدامها فى عمل محاور مرورية وفتح طرق جديدة، وهذا يأتى ضمن خطة عامة لعمل طرق تساهم فى خفض الازدحام بالقاهرة. 

بعض هذه المبانى قد تتحول إلى جراجات عامة، وبعضها قد تتحول إلى نوادٍ عامة وخاصة، الخطة تعمل عليها الكثير من جهات الدولة والهدف منها تخفيف الضغط السكانى والمرورى على القاهرة. 

العاصمة الإدارية الجديدة صممت بشكل يتلافى كل أخطاء القاهرة ويمتد عمقها من حيث المساحة حتى هضبة الجلالة. 

الحديث الآن أيضا عن تحويل وسط القاهرة إلى حى مال وأعمال لذا هناك اهتمام كبير بعمل فنادق ضخمة بميدان التحرير، وسعى بعض رجال الأعمال إلى السيطرة على مبانى وسط البلد. 

ويتبقى السؤال الأكثر أهمية بالتوازى مع هذا التوسع العمرانى٠ 

ما موقف الجهاز الإدارى للدولة؟ 

هل جربت أن تذهب إلى المرور مثلا لتستخرج رخصة السيارة؟ 

بالتأكيد خضت هذا المشوار الذى يساوى عبئًا على القلب، ويحتاج إلى كل أدوية الضغط والسكر، والمدخنين يحرقون ٣   علب سجائر، لدرجة أنك تجد بعضهم يقابلونك بالأحضان بعد حصولك على الرخصة قائلين بفرحة مبروك وعقبالنا، حينما تدخل إلى المرور فإنك يجب أن تذهب أولا إلى شباك التأمين لتقف طابورًا، ثم طابورًا آخر فى شهادات المخالفات، وطابورًا ثالثًا فى الفحص الفنى، ورابعًا فى النمر، وخامسًا فى التظلمات، وسادسًا لشراء طفاية الحريق، وسابعًا فى ملفات التقديم، وثامنًا للمراجعة، وتاسع فى استلام الرخصة٠

انت مطالب بـ٩ طوابير وسط آلاف الراغبين حتى تستخرج رخصة، ليس لأن هذا هو الصحيح، بل لأن هناك عشرات من الموظفين يجب أن يعملوا، بل ملايين الموظفين حتى لو أدى هذا إلى تعطل مصالح بقية المصريين، لقد أصبح الموظف التقليدى عبئًا على الدولة، والتكدس الوظيفى يصادر فرص المواهب الحقيقية فى الانطلاق، مبنى مثل اتحاد الإذاعة والتليفزيون فيه ٤١ ألف موظف وهو أكبر عدد من العاملين الحكوميين فى قطاع الإعلام فى العالم، أقلية منهم فنيون أى معد ومخرج ومذيع وأغلبية منهم موظفون، فى ماسبيرو توجد أكبر مواهب فى الإعلام العربى، لقد ساهموا فى صناعة الفضائيات الخاصة المصرية والعربية، ولكنهم لا يستطيعون عمل ذلك فى ماسبيرو، يتحول معظمهم إلى طاقات عاطلة، هذا المشهد موجود فى كل إدارات ومؤسسات الحكومة، هناك إدارات تم اختراعها خصيصا لاستيعاب العمالة الزائدة من الموظفين، فى مصر فقط يوجد موظف حكومة لكل ١٣ مواطنًا، فى العالم يوجد موظف حكومة لكل ١٥٠ مواطنًا، فى مصر فقط ٩٨ فى المائة من الموظفين يحصلون على تقدير امتياز فى التقرير الشهري، فى مصر فقط يوجد ٦ ملايين موظف حكومى، أى أن أعدادهم تضاعفت طوال فترة حكم مبارك من ٢ مليون و٥٠٠ ألف إلى ٥ ملايين ونصف المليون ثم وصلت إلى ٦ ملايين موظف. 

هذا فى ظرف اقتصادى وسياسى ضاغط على الجميع، تأجيل إجراءات إصلاحية سيدفع مصر فى اتجاه اليونان، وهى دولة وقفت وراءها مليارات ونفوذ الاتحاد الأوروبى وأبقوا عليها حتى الآن، فى مصر الوضع سيختلف، ولن يستطيع أحد إنقاذ 90 مليون مواطن من أزمة اقتصادية كبيرة. 

فى فترة مبارك كانت الأموال تأتى إلى مصر من تحويلات المصريين بالخارج والسياحة وبيع القطاع العام وقناة السويس.

الآن لم تعد هناك سياحة. 

الأرقام تقول إن الوضع تحسن لكننا مازلنا فى كارثة، نسبة النمو فى عام 2010 كانت4.6 وانهارت فى 2011 وأصبحت 1.8 وفى 2012 بلغت 2.2 وفى 2013 كانت 2.1 وفى 2014 وصلت إلى 2.2، وحدثت قفزة فى 2015 ووصلت إلى 4.2 ومن المتوقع أن تصل فى 2016 إلى 4.4. 

البطالة فى 2010 كانت 8.9٪ ووصلت إلى ذروتها  فى 2013 بـ 13.3 وتناقصت إلى 12.8 هذا العام، مع ملاحظة الزيادة السكانية الرهيبة، الأجور قبل ثورة 25 يناير كانت 85 مليار جنيه الآن أصبحت 212 مليارًا، وانضم 900 ألف موظف إلى الجهاز الإدارى للدولة دون الحاجة لهم، الدعم قبل يناير كان 103 مليارات جنيه، وفى عهد الإخوان وصل إلى 229 مليارًا، وهذا العام بلغ 199 مليارًا. 

لقد واجهت مصر صعوبات كبيرة خلال الأعوام الأربعة الاخيرة، هذه الصعوبات ليست مسئولة عنها ثورة يناير فقط، بل بسبب تلكؤ مبارك فى التوجه نحو الإصلاح الاقتصادى، وارتفاع نسبة الفساد.

بطالة مرتفعة زيادة كبيرة فى فاتورة الدعم، وفى نفس الوقت لم تشهد الإيرادات الحكومية زيادة مماثلة.

السيسى عمل فى 2014 على عمل تغيير استراتيجى فى توجهات النشاط الاقتصادى، وعمل على ثلاثة محاور الأول: تطوير البنية التحتية من قطاعات الكهرباء والبترول والغاز الطبيعى وشبكة الطرق القومية والنقل، والمحور الثانى: من خلال المشروعات التنموية من تنمية عقارية ومحور تنمية قناة السويس.

والمحور الثالث: فى مجال الحماية الاجتماعية مثل الإسكان الاجتماعى والتوسع فى الإنفاق الحكومى على المياه والصرف الصحى والصحة والتعليم. 

 ويظل إصلاح وهيكلة الجهاز الحكومى هو الأرضيّة المناسبة لأى إصلاح اقتصادى، هناك ملفات لم يجرؤ أى رئيس جمهورية أو حكومة على الاقتراب منها وهى الدعم والموظفون، لكن السيسى اقتحم الملف الأول، ومن المتوقع ألا يصمت كثيرا حتى يقتحم الملف الثانى. 

لقد تم وضع جميع الهيئات الحكومية والوزارات فى تخطيط العاصمة الإدارية الجديدة بما فيها المؤسسات المهمة مثل وزارات الخارجية والبرلمان ومجمع التحرير، وهذا يعنى نقل  ما لا يقل عن ٤ ملايين موظف إلى العاصمة الجديدة، وسط تخطيط ومرور منتظم ووسائل مواصلات عالمية ومنظومة طرق حديثة، هؤلاء سيعملون وفق إجراءات إلكترونية وقاعدة بيانات واضحة للكل، فقد عقد الرئيس اجتماعا مع وزير الاتصالات لدمج قاعدة بيانات ٢٠ جهة حكومية فى ملف واحد، وسيساهم هذا فى كشف الأبواب الخلفية لسرقة الدعم ووصوله إلى طبقات لا تستحقه، سيكشف موظفين متجاوزين الحد الأقصى للأجور ومستفيدين من تعقد شبكة الأجور والرواتب بين الوزارات والهيئات. 

هناك بعض الموظفين الذين سيقبلون بالانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة والبعض الآخر سيرفض، هنا على الدولة أن تفتح المعاش المبكر، ويتمتع الموظفون بمكافأة نهاية خدمة معتبرة.