مى سمير تكتب: فضيحة فى واشنطن

مقالات الرأي



ما إن قام الطبيب بتصوير قدم السجين المكسورة  بالأشعة السينية، حتى أعطى زملاءه العملاء فى المخابرات المركزية الأمريكية الحق فى إجبار السجين على الوقوف لمدة 52 ساعة كشكل من أشكال التعذيب ليكون متعاونا خلال التحقيقات الجارية.

بتلك الواقعة، افتتح موقع «بيزنيس انسايدر»، تقريره الذى نشره فى بداية هذا الأسبوع عن برنامج استجواب وكالة المخابرات المركزية الذى وصلت تكلفته لـ 81 مليون دولار واستمر لمدة سبع سنوات على الأقل فى عهد إدارة بوش ابتداء من عام 2002.

وتشير الوثائق العامة إلى أن هذا البرنامج كان يقوده اثنان من علماء النفس العسكريين، وهما جون بروس جيسن وجيمس ميتشل، اللذان ينظر إلى تقنياتهما على أنها تعذيب.

برنامج التعذيب الذى استخدمه عملاء المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع الأطباء النفسيين عاد من جديد يستحوذ على اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية بعد رفع الاتحاد الأمريكى للحريات المدنية دعوى قضائية فى عام 2017 نيابة عن السجناء السابقين، وهى القضية التى ألقت الضوء على التفاصيل المروعة لوسائل التعذيب التى وافق عليها الأطباء لاستخدامها مع الإرهابيين فى محاولة لاستخراج المعلومات منهم بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

1- ميتشل وجيسن

فى عام 2002 اتصل بهما مسئولون من وكالة المخابرات المركزية مع طلب للحصول على تقنيات للحصول على معلومات من المشتبه بهم من الإرهابيين المحتملين، اجتمع ميتشل وجيسن، وجلسا على آلة كاتبة، وكتبا قائمة بكل أساليب التعذيب الممكن استخدامها.

وشملت الأساليب التى أدرجاها: الحرمان من النوم ومياه الشرب، واعتمد الطبيبان بشكل أساسى على التقنيات التى قام بها علماء النفس من أجل تدريب الجنود الأمريكيين لاستخدامها لمقاومة الاستجوابات فى حال إلقاء القبض عليهم من جهات عدائية، وشكل الاثنان شركة تدعى ميتشل وجيسن وشركاؤهما وحصلوا على أكثر من 80 مليون دولار من الحكومة الأمريكية مقابل خدماتهم.

استخدم ميتشيل وجيسن نظرية نفسية حددها الطبيب النفسى مارتن سيليجمان لجعل المحتجزين أكثر مرونة، وفقاً لتقرير مجلس الشيوخ لعام 2014. وتصف النظرية التى تسمى «العجز المكتسب» كيف يتخلى الأشخاص الذين يتعرضون للألم والمعاناة عن محاولة الهرب بمجرد أن يبدأوا فى رؤية وضع خارج عن إرادتهم.

فى عام 2014، قال سيليجمان لصحيفة التايمز إنه يشعر بالحزن والرعب لسماع أن عمله قد استخدم فى ما يتعلق بالاستجوابات الوحشية.

وأشار تقرير «بيزنيس انسايدر»، إلى أن أطباء آخرين كانوا جزءا لا يتجزأ من برنامج وكالة المخابرات المركزية، فيما تولى جيسن وميتشيل تصميم البرنامج، فإن العشرات من المهنيين الطبيين الآخرين أشرفوا وشاركوا فيه.

ونشر الجراح والمؤلف أتول جواندى، على موقع التواصل الاجتماعى تويتر بعد وقت قصير من إعلان مجلس الشيوخ عن برنامج التعذيب فى وكالة المخابرات المركزية «التعذيب لا يمكن أن يمضى دون إشراف طبى، فمهنة الطب متورطة بشدة فى هذه الممارسات اللاإنسانية».

وقال تقرير لمجلس الشيوخ إن الأطباء ومساعدى الطبيب وفريقاً من الضباط الطبيين كانوا حاضرين للاستجواب فى كل خطوة من مراحل العملية.

وكان مكتب الخدمات الطبية، وهو الوكالة المصممة لإسداء المشورة لوزارة الخارجية الأمريكية بشأن القضايا الصحية، مسئولا عن تحديد طبيعة ومدى إصابات المحتجزين  ومتى يمكن السماح للمحققين باستئناف أساليبهم الوحشية.  على سبيل المثال قال الأطباء لعملاء المخابرات المركزية ما درجة حرارة المياه التى ينبغى أن تستخدم مع المحتجزين  فى  تقنية الإغراق؟ واقترحوا أنهم يستخدمون محلولاً ملحياً بدلا من الماء العادى حتى لا يتعرض السجناء للقتل بسبب التسمم بالماء.

وكشفت القضية زيادة مشاركة الأطباء حيث تشير الأبحاث إلى أنه منذ 11 سبتمبر، شارك المهنيون الطبيون بشكل متزايد فى مساعدة الحكومة فى صياغة تقنيات الاستجواب العنيفة.

فى مقال نشر فى مجلة نيو انجلاند للطب عام 2004، كتب روبرت جاى ليفتون، خبير الصدمة فى جامعة هارفارد، وعمل أيضا طبيبا نفسيا فى سلاح الجو، أن الأطباء الأمريكيين تورطوا فى التعذيب فى أبوغريب، وهو مركز احتجاز تديره الولايات المتحدة فى العراق.

وقال ليفتون: «إنهم كانوا جزءا من هيكل القيادة الذى يسمح بتشجيع التعذيب، ويشجعه، وأحيانا يدبر التعذيب إلى درجة أن أصبحت هذه المشاركة بمثابة القاعدة التى يتوقع منهم الامتثال لها، وحتى من دون المشاركة المباشرة فى الإساءة أو التعذيب، أصبح الأطباء مشاركين فى بيئة من التعذيب وساعدت سلطتهم الطبية على استدامة هذه الأساليب الوحشية».

والأسوأ من ذلك، كما كتب، أن مشاركة الأطباء يمكن أن تمنح هالة من الشرعية ويمكن أن تخلق حتى وهماً من العلاج والشفاء.

وفى كتاب صدر فى أكتوبر، ذكر مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» جيمس ريسن أن الجمعية الأمريكية لعلم النفس عملت مع إدارة بوش لسنوات لتوفير غطاء لأساليب التعذيب، وفى عام 2015، أصدرت الجمعية بيانا رسميا يدين تقنيات الاستجواب المعززة، وأضافت الجمعية أنها سوف تستعرض بشكل مستقل ادعاءات رايزن.

2- تقنيات غير مجدية

ويبقى السؤال المهم: هل ساعدت التقنيات الوحشية وكالة المخابرات المركزية فى الحصول على المعلومات؟، تقرير مجلس الشيوخ أكد بحزم أن التقنيات المسيئة الواردة فى التقرير لم تساعد وكالة الاستخبارات المركزية فى الحصول على معلومات موثوقة، فمن بين 119 سجينا تعرضوا للتعذيب، اعتقل 26 شخصا بصورة غير مشروعة.

واقترح ميتشل نفسه - فى مقابلة مع محطة «فايس نيوز»- أن الطريقة التى تم بها تطبيق البرنامج تعنى عدم وجود معلومات استخباراتية مباشرة من تقنيات الاستجواب نفسها، ولكن بدلا من استخدام لعبة «شرطى جيد، شرطى سيئ»، اختار المسئولون استخدام تقنيات التعذيب لإجبار المحتجزين على التجاوب معهم. وقال ميتشل فى مقابلة تليفزيونية فى عام 2014 «سوف أذهل إذا وجدوا أى نوع من الأدلة التى تشير إلى أن تقنيات الاستجواب المعززة التى تم تطبيقها قد أثمرت عن معلومات استخباراتية».

3- محاكمة الأطباء

رفع الاتحاد الأمريكى للحريات المدنية دعوى قضائية ضد المخابرات المركزية والأطباء-  نيابة عن العديد من السجناء السابقين فى وكالة المخابرات المركزية.

وحصلت وسائل الإعلام الأمريكية على تسريبات لشهادات الدكتور جيسن والدكتور ميتشل، إلى جانب شهادات مسئولين، ومعتقلين سابقين، وتم الإفراج عن وثائق الوكالة التى تم رفع تصنيفها مؤخرا فى القضية.

ومن جانبه أشار الدكتور جيسن إلى أنه يؤمن بفعالية مثل تلك الأساليب فى استخراج المعلومات من المشتبه فيهم، وأكد أن تطبيقها كان يتم بشكل آمن لضمان سلامة المشتبه فيهم، لكن على الرغم من السلامة الجسدية لأغلب المشتبه فيهم إلا أن شهادات عدد منهم فى المحاكمة أكدت أن الأضرار النفسية لمثل هذه الأساليب قد دمرت حياتهم ولاتزال ذكريات هذه الأيام تطاردهم إلى يومنا هذا، فعلى سبيل المثال تعرض أحد المتهمين للتعذيب عن طريق الإيهام بالغرق لأكثر من 80 مرة على مدار أيام قليلة ما ترك آثارا نفسية لا يزال يعالج منها إلى يومنا هذا.  

وتضمنت المحاكمة شهادة سليمان سليم وهو مواطن تنزانى ألقى القبض عليه فى عام 2003، فى أفغانستان، حيث تعرض للضرب والعزل فى زنزانة مظلمة لعدة أشهر، وتعرض للغرق بالماء والحرمان من النوم، وقال إنه يعانى من ذكريات مؤلمة، وصداع مزمن، علاوة على الأرق والطنين فى أذنيه، أما الدكتور ميتشل- الذى اشتهر بظهوره الإعلامى المتواصل  للحديث عن هذا البرنامج إلى جانب إصداره كتاباً يرصد فيه تفاصيل هذا البرنامج- فقد قدم شهادته هو الآخر وأشار فيها إلى أن أغلب عمليات التعذيب كان يتم تصويرها بالفيديو، وأضاف أن عملاء المخابرات المركزية كانوا يطلبون منهم استخدام أساليب أكثر قسوة واتهموهم بأنهم جبناء وأن أساليبهم غير كافية.

وأدى الكشف عن هذا البرنامج فى 2009  إلى فرض حظر فى نهاية المطاف على مثل هذه التقنيات وحظر من قبل جمعية علم النفس الأمريكية ضد مشاركة الأعضاء فى الاستجوابات الأمنية الوطنية.

وأدان تقرير لجنة الاستخبارات فى مجلس الشيوخ فى عام 2014 تقنيات الاستجواب، ووصفها بأنها وحشية وغير فعالة فى تقديم معلومات استخباراتية مختلفة عن تلك التى يمكن الحصول عليها من خلال وسائل الاستجواب التقليدية.