عادل حمودة يطرح حلولا لإنقاذ الحكومة من الفشل

مقالات الرأي



تكلفة طريق واحد تنقذ 4200 مصنع مغلق تنتج سلعًا تخفض الأسعار

■ المشروعات القومية على أهميتها وفرت أجورا للعاملين فيها زادت من الطلب على السلع المحدودة فى الأسواق فارتفعت أسعارها

■ لن ينقذ الاقتصاد المصرى سوى الإنتاج والصينيون أصبحوا سادة العالم بالإنتاج



يشعر الأمريكيون بالزهو والفخر عندما يرشقون دبوسا فى صدر ملابسهم يحمل علم بلادهم.. لكن.. ما إن يقلبوا الدبوس حتى يجدوا الجملة الشهيرة «صنع فى الصين» محفورة على ظهر العلم.

وتتكرر تلك الجملة فى المسابح وسجاجيد الصلاة التى يحملها الحجاج والمعتمرون من مكة إلى أهاليهم وأصدقائهم فى أربعة أنحاء العالم الإسلامى.

ولو دخلت متاجر التذكارات السياحية فى لندن ستجد أن تماثيل العائلة الملكية ونماذج قصورها ومعالم بلادها صناعة صينية.

هنا يمكن القول بلا مبالغة: إنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكانت الصين ثالثهما.

الفراش والسيارة والموبايل والكمبيوتر والثياب وأثاث المكتب ولعب الأطفال وأوانى الطهى والتماثيل الفرعونية والمنشطات الجنسية وغيرها من السلع التى تجمع بين الرجال والنساء كلها مستوردة من الصين أو شينوا بلغة أهلها.

وليس مستغربا بعد كل هذا الغزو أن يزيد الناتج المحلى هناك على 15 تريليون دولار (التريليون ألف مليار) ويزيد نصيب الفرد منه على 10 آلاف دولار رغم اقتراب عدد السكان من المليار ونصف المليار نسمة وأن يزيد الاحتياطى النقدى على 1930 مليار دولار.

وعندما زرت الصين فى شتاء عام 2008 توقعت أن أجد شعبا يأكل كل ما فى البحر ما عدا السفن ويأكل كل ما فى البر ما عدا السيارات ويأكل كل ما يحلق فى السماء ما عدا الطائرات لكن تلك الصورة القديمة الشائعة تغيرت تماما فقد وجدت عندما زرت المدينة المحرمة التى كان يسكنها الإمبراطور أفواجا من البشر تأكل الكرواسون والبان كيك والتوست الفرنسى وتشرب الكابتشينو.

ولو وقفت فى طابور استرداد ضريبة المبيعات للسياح الأجانب فى مطار هيثرو ستجد الصينيين هم الأكثر شراء.

ولو تجولت فى شانزليزيه باريس ستجد طوابير من الصينيين أمام معارض لوى فيتون التى تتقاتل عليها نساء العالم ليحصلن منها على حقيبة يد واحدة تمنحهن صفة التميز.

ولو دخلت كازينوهات القمار فى لاس فيجاس ستجد الصينيين يسيطرون على غالبية موائد اللعب وهو ما جعل فنادق المدينة المميزة (مثل فندق بلاجيو) تحتفل برأس السنة الصينية أكثر من احتفالها بالكريسماس.

أصبح الصينيون (الأكثر فقرا) سادة العالم وأغنى أغنيائه والأكثر استمتاعا بكل ما فيه من مباهج وترف فما سر هذا الانقلاب الحادة فى حياتهم؟

كلمة واحدة كانت بمثابة التعويذة السحرية التى حققت المعجزة: الإنتاج.

وقد استمدت كلمة الإنتاج قوتها من الحكمة التى خرجت من الحضارة العريقة هناك وعبرت عن نفسها فى جمل بليغة تحولت إلى قوانين صارمة التزم بها الجميع.

الطريق ذو الألف ميل يبدأ بخطوة.. بهذه الجملة بدأ ما وتسى تونج وأتباعه دون يأس مسيراتهم الطويلة الشاقة التى استمرت سنوات من العرق والدم حتى وصلوا إلى الحكم.

دع مائة زهرة تتفتح.. بهذه الجملة جددت الثورة الشيوعية الصينية دماءها لتنجو من مصير الثورة البلشفية فى روسيا التى اختنقت بجمود البيروقراطية السياسية وفسادها حتى سقطت وتفتتت.

لا تعطنى سمكة بل علمنى الصيد.. بهذه الجملة أصبح على كل مواطن فى الصين تعلم حرفة مهما كانت متواضعة ومهما كان مستوى شهاداته ليكفل نفسه ويطعم طفله الوحيد المسموح له بإنجابه دون إضافة عبء طفل آخر ولو كان قادرا على إعالته.

ولن تصدق أن الصين لم تقبل فى سنوات نموها الصعبة المكاسب السهلة من التسول والبقشيش والسمسرة والدعارة والرشوة فقد كانت جرائم عقابها صارما ويصل أحيانا إلى الإعدام.

وقلب الحزب الحاكم هناك مبدأ: كل حسب حاجته الذى روجت له الشيوعية فى بدايتها إلى مبدأ أهم هو: كل حسب عمله فمن يريد أن يأكل عليه أن يعمل ومن يريد أن يلبس عليه أن يضاعف عمله.. العمل أصبح العملة الوحيدة التى يشترى بها المواطن ما يريد.

تجربة مميزة لم نتوقف لفحصها حضاريا ونفسيا واجتماعيا قبل دراستها اقتصاديا فكل ما أخذناه منها استيراد بضائع رخيصة منها دمرت كثيرا من صناعاتنا الوطنية أو على الأقل أوقفت نموها.

تجربة فرضت نفسها على تفكيرى وأنا أتابع بألم صارخ استشراء ثقافة التسول التى فرضتها علينا إعلانات الجمعيات الخيرية والمستشفيات الحكومية والأزهر (المؤسسة الإسلامية) على القنوات التليفزيونية بكثافة طوال شهر رمضان لمساعدة المصابين بكل الأمراض (القلب والسرطان والكسور والحروق والحوادث) ودعم المساكين من كل العينات (الجائعين والغارمين وشاربى المياه الملوثة والمقيمين فى بيوت بلا أسقف والعاجزين عن شراء الثياب القديمة لهم ولعائلاتهم).

وقد انتقلت ثقافة التسول من الفضائيات إلى الشوارع ومنها إلى دواوين الحكومة وفى دولة يعمل فيها ستة ملايين موظف لتصبح الظاهرة مؤلمة قبل أن تكون مخزية.

وتصل الظاهرة إلى حد الخطر عندما نجد مسئولى الأمن فى الفنادق يتساهلون مع الوجهاء والأثرياء فيعفونهم من المرور عبر أجهزة كشف الأسلحة مقابل ما يجودون به من نفحات.

لست مانعا للخير ولا أحاسب من يقومون به طمعا فى ثواب أو استجابة لمشاعر رقيقة فى صدورهم بل إننى لا أختلف عنهم كثيرا.

لكن ما نقدمه جميعا مهما كبر حجمه لن يحل المشكلة.. وما تقدمه الدولة فيما تسميه بـ برامج الحماية الاجتماعية مهما تضاعفت ملياراته لن يحسمها.. كلها مسكنات تخفف من الشعور بالألم لكنها لا تعالج أسباب المرض الذى لابد أن يتفاقم يوما بعد يوم طالبا المزيد منها.

لقد فرضت المشكلة نفسها على الجميع بعد التضخم الحاد الذى صاحب تعويم الجنيه لتزيد نسبته سنويا على 30 % حسب أرقام الجهاز المركزى للإحصاء وفى الوقت نفسه انخفضت القيمة الفعلية للمدخرات المالية بنسبة لا تقل عن 50% فالتعويم أصاب الأغنياء كما أصاب الفقراء.

وفى بلد يستورد 70% من طعامه ومستلزمات إنتاجه من الخارج لم يكن هناك مفر من زيادة أسعار السلع والخدمات بدرجة غير مسبوقة كما أن شعور الناس بفقدان قيمة العملة دفعهم لمزيد من الشراء فوقعوا تحت ضرورس التجار.

ورغم أهمية المشروعات القومية (العاصمة الإدارية الجديدة وتمهيد سبعة آلاف كيلومتر من الطرق الجيدة وإنشاء مناطق عمرانية امتدادا لمدن قديمة) فإن تكلفة هذه المشروعات (1400 مليار جنيه) بخلقها فرص عمل لعشرات المئات وضعت فى أيديهم أجورا نزلوا بها إلى الأسواق فزادوا من الطلب على السلع والخدمات المحدودة العرض فرفعوا من أسعارها وضاعفوا من حجم المشكلة.

والخبرة التى تعلمناها من أساتذتنا الكبار فى كلية الاقتصاد (زكى شافعى ورفعت المحجوب وعمرو محيى الدين وأحمد الغندور ومصطفى السعيد) أن مشروعات البنية الأساسية ضرورة لتحفيز الطلب على سلع مكتملة الصنع تعانى من الكساد وبشرائها تنجو المصانع من الغلق وينجو عمالها من التشرد وتحقق شركاتها أرباحا تمول الخزانة العامة بما تسدد من ضرائب وتعيد بها للدولة ما دفعت فى مشروعات البنية الأساسية.

وتعرف هذه النظرية بنظرية كينز، وكينز أو جون مينارد كينز اقتصادى وسياسى ودبلوماسى بريطانى أنقذ الرأسمالية من الكساد العظيم الذى أصابها فى نهاية ثلاثينيات القرن الماضى عندما طالب الدولة بضخ مزيد من الإنفاق العام على تجديد شبكات الطرق والمياه والصرف الصحى والاتصالات لتشغيل أعداد كبيرة من العمال لن يترددوا فى إنفاق إجورهم على شراء السلع الكاسدة مما يعيد المصانع للإنتاج من جديد فتعود للاقتصاد عافيته وتهبط درجة حرارة التضخم ويزداد نشاط غريزة الاستثمار.

والواضح أن الروشتة الكينزية تشترط وجود سلع كاسدة ومتوافرة لا تجد من يشتريها وبتدخل الدولة فى خلق فرص عمل يزيد الطلب عليها وبدون هذا الشرط يصبح الدواء قاتلا.

لكن.. الدولة فى مصر بإنفاقها الضخم على المشروعات القومية (على أهميتها) خلقت فرص عمل وفرت نقودا فى يد العاملين فيها دون زيادة فى السلع المعروضة فكان أن ارتفعت الأسعار بتلك النسب غير المسبوقة.. بل إن عرض السلع انكمش عن معدلاته المعتادة بسبب تراجع الاستيراد بعد تعويم الجنيه مما ضاعف من سخونة التضخم.

كان على الحكومة القائمة أن تسارع بتشغيل المصانع المعطلة فى الوقت الذى تنفذ فيه المشروعات القومية لتضمن وجود سلع تزيد من العرض فلا يزيد التضخم بزيادة الطلب بسبب أجور العمال فى تلك المشروعات.

وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد المصانع المعطلة يصل إلى 4200 مصنع، وتؤكد التقديرات نفسها أنها فى حاجة إلى نحو 500 مليون جنيه لتشغيلها وهو مبلغ كان يمكن توفيره بتأجيل شق طريق أو أكثر من تلك الطرق البعيدة.

وكانت هناك فرصة سمينة لهذه المصانع فى الازدهار والنمو والتوسع بعد أن زادت قدرة منتجاتها على المنافسة إثر التعويم وارتفاع أسعار البديل المستورد.

لكن.. ذلك لم يحدث.. بل حدث ما هو أسوأ.. زاد عدد المصانع المهددة بالغلق بعد التعويم عندما طلبت البنوك سداد مديونيتها القديمة بالدولار بأسعار ما بعد التعويم وراحت تفرض فوائد تأخير عليها فارتفعت المديونية إلى حد يصعب معه سدادها.

وكان على الحكومة والبنوك وأصحاب المصانع تقسيم أعباء ما بعد التعويم على ثلاثتهم لضمان عدم إضافة مصانع جديدة إلى قائمة الغلق وعدم إضافة أعداد أخرى من العمال إلى قائمة البطالة وعدم نقص السلع المنتجة بما يزيد من التضخم.

نسيت الحكومة الكلمة الشافية من غالبية متاعبنا الاقتصادية.. نسيت كلمة الإنتاج.. وراحت فى وقت واحد تفرض ضرائب جديدة وترفع أسعار المواد البترولية والمياه والكهرباء مما فرض مزيدا من التضخم الذى تجاوز هذه السلع إلى سلع أخرى تتأثر بها ثم راحت الدوائر تدور وتدور.

ولم تتردد الحكومة فى منح ملايين موظفيها علاوات إضافية كلفتها مليارات إضافية لكن هذه المليارات لم يقابلها زيادة فى عرض السلع فزاد حريق الأسعار ليلتهم العلاوة قبل صرفها.

وللتخفيف من حدة الأزمة قدمت الحكومة مزيدًا من المساندة للفقراء فيما تسميه برنامج الحماية الاجتماعية لكنها وجدت نفسها مجبرة فى الوقت نفسه على رفع أسعار سلع فى البطاقات التموينية لتأخذ بالشمال بعضا مما قدمت باليمين.

ولم تنتبه الحكومة فى إجراءاتها الاقتصادية الصعبة أنها تدهس الطبقات الوسطى التى لم تعد قادرة على الصمود.

والطبقات الوسطى المحرك النشط للنمو بجميع صوره ولو لم تجد فرصة مشروعة لتحقيق أهدافها وأحلامها فإنها كثيرا ما تنحدر إلى المحرمات.. الرشوة والدعارة والاختلاس مثلا.. وهنا تكون الضريبة الاجتماعية باهظة الثمن.. ولن تقدر على علاجها كل الأجهزة الرقابية والأمنية مجتمعة.

وبالضغط على القادرين بمزيد من الإنفاق على المعيشة تقل مدخراتهم وتتحول إلى الاستهلاك الإجبارى لنفقد مبدأ اقتصاديا مستقرا ومهمًا هو أن نقص الادخار يؤثر فى مستوى الاستثمار.

للمرة المليون لن ينقذ الاقتصاد المصرى سوى الإنتاج.. الإنتاج هو الفضيلة الغائبة التى لا يفكر فيها أحد.. إنها الخبرة التى علينا الحصول عليها ولو من الصين.