عادل حمودة يكتب: تجنيد شاب مصرى فى قواعد داعش على أرض سوريا

مقالات الرأي



■ 20 ألف شاب قتلوا 18 ألف ضحية ولم ترصد استخبارات الناتو مواقع التنظيم إلا منذ شهرين

■ الرحلة إلى العمق السورى استغرقت 20 ساعة فى سيارة دفع رباعى حملت جنسيات آسيوية وأوروبية

■ لم ننم أول ثلاثة أيام أجبرنا خلالها على مشاهدة فيديوهات أبو بكر البغدادى

■ فجأة وجدت نفسى زوجا لفتاة من الشيشان وعندما رفضت سجنونى فى زنزانة تحت الأرض

■ جندنى شيخ مسجد فى المنيل بعد ثورة يناير عندما انتقل من الدعوة إلى التسامح إلى الدعوة إلى إسقاط المجتمع الكافر بالقوة المسلحة

■ لم أستطع ذبح أسير سورى نطق الشهادتين أمامى وأصبت بفقدان الشهية وبهلاوس سمعية وبصرية فأعلنوا عدم صلاحيتى للجهاد


طالت جلسته ثلاثة أيام حتى صار لحم ظهره جزءا من الجدار.. لكنه.. لم ير أمير المؤمنين إلا على شاشة مجسمة فى الخلاء وهو يقلب جمرات النار.. ويصف نفسه بسيف العزيز القهار الذى سيبيد الكفار.. ويفجر البحار.. ويمنح من يتبعه تذكرة لدخول جنة تجرى من تحتها الأنهار.

وما أن انتهى العرض حتى وجد الشاب النحيف نفسه أمام مائدة عامرة بالطعام.. تقدمه إليه فتيات فى لون القهوة من الصومال.. وفى لون الحليب من كازاخستان.. وفى لون المشمش من فرنسا.. لحم وعنب ولوز ومانجو.. لم يقدر على التهامها بعد أن جفت معدته من صيام الثلاثين ساعة الذى أجبروه عليه فيما يسمونه جهاد الجوع والعطش.. وسبقه اختبار أصعب يسمونه جهاد المقاتل المسلم.. أن يظل بلا نوم نفس الساعات.

سقط من طوله على رمال الصحراء.. لم يدرك كم من الوقت ظل فى غيبوبته.. لكنه.. استيقظ على أصابع ناعمة تعبث بشعره وصدره وتقبل فمه وتغسل قدميه بماء الورد.. وهب من مكانه فزعا.. لكن.. الفتاة الشيشانية الناعمة هدأت من روعه.. إنها زوجته التى منحه إليه أمير الجماعة ولو لم يستشره.. على أنه هرب منها بعيدا.. فلم يتقبل بما سمع.. فهو يخاف الله.. ولا يخدع نفسه بكلمات زائفة.. يتحمل وحده وزرها.. وتلقى به فى الجحيم.. وكان رفضه أولى المعاصى التى ارتكبها متمردًا على قانون السمع والطاعة.

لقد كانت رحلته طويلة وشاقة ومخيفة.. ويصعب عليه بعد ما تحمل أن يقع فى الخطيئة كما أنه جاء ليشارك فى تحرير دار الحرب من المشركين والعلمانيين ولن يستسلم لغواية الفاسقين.

كان الأول على دفعته فى تجارة عين شمس.. لكنه.. لم يعين معيدا.. لم تنصفه التقارير الأمنية التى وضعت فى خدمة أبناء الأساتذة الذين مشوا فى طريق التوريث مستثمرين فلسفة الحكم التى سادت فى ذلك الوقت وبدأت من رأس الدولة.

بدأ مشوار تدينه بانتظام الصلاة فى المسجد.. وختم المصحف كل رمضان.. وراح يبحث عن وظيفة ينفق منها على نفسه بعد أن باعت أمه كل ما تملك لتنفق على تعليمه.. ولشدة أمانته اختارته شركة لنقل الأموال مسئولا عن خزائنها.

وضع نظاما صارما لمراقبة العمال الذين يفرزون ويحصون ويعبئون النقود قبل حملها إلى البنوك.. وطوال سنوات خدمته فى الشركة لم تفقد جنيها واحدًا.. وعندما سرقت سيارة محملة بعشرة ملايين جنيه فى الفوضى التى سادت بعد ثورة يناير لم ينم ساعة حتى عثروا عليها.. فقد كان يؤمن بأن الإخلاص فى العمل هو ذروة التدين.. بدون احترام الوعد ومساعدة الضعيف والصدق فى القول وتجنب الاغتياب لن تنفع صلاة ولن يجد صوما.

كانت مرجعيته الدائمة شيخ المسجد الملاصق لبيته فى حى المنيل.. شيخ هادئ.. متواضع.. متسامح.. لا يميل للتزمت.. يدعو الناس لنبذ التشدد والتطرف.. ويحرم إراقة الدماء.. ويؤمن بأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر والأصعب.

لكن.. ما إن سقط النظام وتفجرت مصر بنقاب النساء ولحى الرجال حتى كشف الشيخ عمّا كتم فى أعماقه سنوات طوالًا خشية القبض عليه.. فجأة تغيرت اللغة التى يسمعها الشاب منه.. أصبح الجهاد فريضة.. والموت فى سبيل الله غاية.. وقتال المجتمع الكافر من حوله ضرورة على كل مسلم ومسلمة.

وعندما أبدى الشاب دهشته من هذا الانقلاب الحاد والتحول المباغت خفف الشيخ من روعه شارحا ومفسرا.. إنها التقية يا ولدى.. أن تخفى ما تؤمن به وما تعتقد خشية الضرر.. وقد زال الضرر بتنحى الطاغية الذى كان يحكمنا.. وجاءت الفرصة السماوية للجهاد وصولا للخلافة الإسلامية.. لن نتقاعس بعد اليوم.. يجب مساندة الإخوان فى كل مكان فنحن أمة واحدة وانتصار جماعة فى سوريا أو ليبيا أو الشيشان انتصار لجميع المؤمنين.. ولو كنا اليوم فى تونس فغدا فى إندونيسيا وبعد غد فى مصر.. بدأ الإعصار ولن يقف فى طريقه أحد.

وعرف الشاب أن شيخه ينتمى إلى ما سماه السلفية الجهادية وأن خليته فى القاهرة تنفذ ما تؤمر به من قيادة فى الإسكندرية.. وأمام هذا الكشف المباغت حاول الشاب الانسحاب.. لكنه.. وجد الشيخ يخرج مصحفا ومسدسا ويضعهما أمامه.. وطلب منه الاختيار.. إما قسم الولاء على المصحف أو الموت قتيلا برصاص المسدس.

والحقيقة أن الشاب كان يحب الشيخ ويثق فيه ويشعر بفضله عليه.. فكثيرا ما سدد عنه مصروفات الجامعة.. وكثيرا ما جاء إليه بملابس جديدة لم يكن ليملك ثمنها.. لكن.. الأهم أنه تغذى على كلماته.. وأحس بها تسرى فى شرايينه حتى أصبحت جزاء منه يصعب عليه التخلص منها.

كانت كلمات الشيخ تتجاوز تفسير الدين إلى توصيف الدنيا.. نحن يا ولدى ننتظر الفجر الذى طال غيابه عشرات السنين العجاف.. تخشبت أقدامنا وجفت أنهارنا وضاعت أعمارنا.. وعشنا كالدجاج فى أقفاصنا.. كل حاكم جديد يشبه الحاكم القديم.. علينا أن نساند من يدعو إلى شرع الله.. لينهض الأموات ويبصر العميان.. ويخلصنا من أبى سفيان.

وحانت لحظة حصاد ما زرعه الشيخ فى الشاب.. لابد يا ولدى أن تذهب وتدعم إخوانك فى سوريا.. إن تنظيم الدولة الإسلامية هناك يصر على أن يوسع من أرضه ليوحد ما بين العراق والشام.. لتكون الحاكمية هناك لله.. ولو انتصروا هناك فإنهم سيفتحون مصر إن شاء الله.

وعبثا حاول مالك الشركة وهو ضابط شرطة سابق إثناء الشاب عن الاستقالة ولم يعرف منه السبب الذى جعله يترك عمله بل ولم يعرفه من ملفاته الأمنية فلم يكن الشاب مسجلا فيها بعد.

ترك الشاب عشرة آلاف جنيه قدمها إليه الشيخ لوالدته المريضة والوحيدة وسافر إلى تركيا جوا.. وفى مطار استنبول وجد فى انتظاره فتاة مودرن ترتدى الجينز الضيق وتدخن بشراهة متعمدة حتى لا تلفت الأنظار.. لكنها.. ما أن أوصلته إلى فندق صغير فى السوق القديم حتى ظهر شاب آخر.. أخذ منه جواز سفره.. وحمله فى سيارة ليلا حتى وصلا إلى منطقة قريبة من الحدود مع سوريا.

كانت سوريا ولاية عثمانية حتى سقطت الخلافة فى تركيا وقسمت تركتها بعد الحرب العالمية الأولى طبقا لاتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا عام 1916.

وتمتد الحدود بين تركيا وسوريا نحو 400 كليومتر وتمر عبر نهر الفرات وصولا إلى نهر دجلة فى أقصى الشرق وأحيانا تضيق المسافة بين البلدين فلا تزيد عرض شارع كما فى مناطق يلادا كابيسى وريحانلى وأونوبيار كابيسى وفى هذه المناطق فتح 13 مركزا لتجميع الإرهابيين قبل دخولهم إلى سوريا بجانب مناطق أخرى مثل إصلاحية وتشوبانبى وكارميش واقجة القلعة ومرشد بينار وجيلانبار وشنيورت ونصبين.

ولم يكن من الصعب على الشاب اكتشاف أن تلك المراكز تحميها الشرطة التركية لضمان عدم عودة المقاتلين إلى داخل بلادها من جديد.. وفى المقابل تغمض حكومة أردوغان عينيها عن شحنات النفط القادم من آبار سوريا التى استولى عليها تنظيم داعش.. كما سمحت بمنطقة حرة لبيع الآثار جاء إليها خبراء فى متاحف أوروبية وآسيوية.. دفعوا ملايين الدولارات فى قطع نادرة.. ومولوا بصورة مباشرة العمليات الإرهابية التى تواجهها دولهم المشاركة فى التحالف الدولى ضد داعش.

قضى الشاب ثلاثة أيام فى أحد هذه المراكز يقرأ ما اصدره التنظيم من كتب وصل عددها إلى 90 كتابا بجانب قائمة طويلة من كتب مختارة بعناية لغسيل المخ وصل عددها إلى 200 كتاب تركت له حرية الاختيار منها.

ومن بين ستين ألف موقع باللغة العربية وثلاثين ألف موقع باللغات الأجنبية تحرض على العنف وتبرره سمح للشاب بثلاثة مواقع فقط يمكنه الدخول عليها وهدد بالعقاب إذا لم يلتزم بما يؤمر به.

وفى سيارة دفع رباعى بدأت رحلته عبر طرق فرعية ضيقة وغير ممهدة إلى سوريا.. كان رفاق الرحلة شبابا فى مثل عمره من ألمانيا وفلسطين وفرنسا وبعد عشرين ساعة وصلوا ليلا إلى إحدى قواعد التنظيم.

ولم يجد أحدا فى استقبالهم.. أجلسوهم بجوار حائط أمامه شاشة كبيرة ليشاهدوا على مدى ثلاث ليال عمليات التنظيم الوحشية.. وتعليمات الأمير المؤسس إبراهيم السامرائى وشهرته أبو بكر البغدادى.. ولاحظ الشاب وجود أجهزة اتصال بأقمار صناعية فى أيدى كثير من مسئولى المعسكر.. كما لاحظ وجود كمبيوترات محمولة مؤمنة يستخدمونها فى تبادل الرسائل والتعليمات.. فلا أحد يتكلم بصوت مرتفع.. الكل يهمس دائما.

وبرفضه الزواج من الفتاة التى وهبوها إليه حملوه إلى ملجأ تحت الأرض ليظل وحيدا فيه ثلاثة أيام لم يقدموا إليه سوى الخبز الحاف والماء.

وبدأت التدريبات فى مجموعة تسمى فتح مصر رتبت أولويات العمل فى أربع مراحل.. إضعاف الأمن.. ضرب الاقتصاد.. قتل الأقباط.. واخيرا اغتيال الشخصيات المؤثرة فى البلاد.. التدمير قبل التمكين.. الفوضى أقصر طريق إلى السلطة.

تمارين على القتال.. برامج دينية تبرر القتل.. وشرح لما يسمونه أنواع الجهاد.. مثل جهاد الممكن ويقصد به إحداث ضرر فى المجتمع بصورة عشوائية مثل استخدام السكين أو الدهس بسيارة أو تفجير عبوة ناسفة.. وجهاد الطلب وهو الجهاد الأكبر لقلب نظم الحكم.

وبعيون خبيرة أحصى الشاب نحو مائة منظمة مسلحة تعمل فى سوريا أكبرها داعش والقاعدة وتضمان عشرين ألف مقاتل وتمتلكان أسلحة حديثة وقدرات مالية هائلة وفى السنوات الخمس الأخيرة قتلتا ثمانية عشر شخصا.

لكن.. ما توقف عنده الشاب هو أن التحالف الدولى ضد داعش الذى يضم ستين دولة ونفذ ثماني عشرة طلعة جوية ضد التنظيم لم يضع يده على أسير واحد.. أكثر من ذلك قدمت الولايات المتحدة قبل ثلاث سنوات صفقتى سلاح إليه.. وبدا غريبا أن حلف الناتو الذى يفخر بأنه لا يترك ذبابة تمر دون أن يرصدها لم يقدم خرائط تمركز التنظيم فى سوريا إلا منذ شهرين فقط.

شىء ما كان يقبض قلب الشاب وهو يشاهد عمليات القتل الوحشية التى ينفذها التنظيم وما خشيه تحقق.. طلبوا منه أن يذبح بنفسه أسيرا سوريا نطق أمامه الشهادتين.. ولم يستطع تنفيذ ما طلب منه.. وسجن هذه المرة تحت الأرض شهرين.. وما أن خرج إلى النور حتى أصيب بإعياء شديد.. وفقد شهيته.. وأصيب بهلاوس سمعية وبصرية جعلت التنظيم يقرر إعادته إلى مصر.

ما أن خرج من مطار القاهرة حتى ذهب ليصلى فى مسجد الحسين وبقى بجانب الضريح يحمد الله على أنه لم يلوث يديه بالدم وعادت إليه حياته الطبيعية.

هذه قصة مستوحاة من الحقيقة سمعتها من صاحب شركة نقل الأموال أمام منتدى أخبار اليوم وأضفت إليها من عندى ما هو متاح من معلومات لعلنا نفسر كثيرا من الأحداث الإرهابية التى تقع فى مصر وآخرها قتل الأقباط.

وقد سعيت إلى ظهور الشاب على شاشة برنامج تليفزيونى كنت أقدمه ليروى تجربته لكنه خشى على نفسه من القتل.. ومن جانبى لم أكشف عن القصة احتراما لحقه فى الحياة.