محمد حسن عبد الله يكتب: ( جرة عسل ) الحفر في الذاكرة

ركن القراء

محمد حسن عبد الله
محمد حسن عبد الله


كنت الأخير ( رقم 99 ) آخر العنقود ، ولكن .. لم أكن السكر المعقود ، فقد استأثر بهذا الوصف أخي الأكبر مني مباشرة ( رحمه الله ) كان جميلا مثل أُمنا ، أبيض مثلها ، وكنت في لون حبة البطاطس ( مثل أبي ) ، وحين قرأت كتاب " الزُهرة " لمؤلفه : محمد بن أبي داود الظاهري ، وكان فقهاء المذاهب المنابذة للمذهب الظاهري يسخرون من كتابه في الحب ( الزهرة ) ويطلقون على المؤلف " عصفور الشوك " وحين أدركت خصوصيتي الجسدية لم أجد ما يخالف هذا الوصف . غير أنني – وقد كنت الأخير – فقد احتفظ لي إخوتي الأكبر الكثير من نوادر الطفولة ، بعضها تسعد به النفس ، وبعض آخر عكس ذلك .
 كانت دارنا كبيرة ، تشرف واجهتها على البركة الناشفة من جهة ، وتطل على شريط السكة الحديد ( الفرنساوي ) من خلف ، وكان القطار الفرنساوي ( وهو وسط بين الخط الحكومي ، وقطار الدلتا ) يستخدم غاز الاستصباح ( هكذا كان يعرّف في كتب المدرسة ) لإضاءة العربات . من ثم يشخص فوق كل مصباح ما يشبه ثمرة القرع العسلي الصغيرة . حدث أن وقفت أشاهد هذه الشواخص ، والعربات تمر في مدى الرؤية ، وقد اخترعت لكل منها – على البديهة – اسماً هو ( زِنِّع ) وظللت أردد هذه الكلمة المخترعة مع كل مصباح يمر !! حدث أن أخي الذي يكبرني كان قريبا مني ، ولابد أن يلفت انتباهه هذا الولد ( الأُزعة ) وهو يردد مع توالي عربات القطار : زنع .. زنع .. زنع ، فالتقطتها أذنه وواجهني بها ، فكانت أول صفات الهجاء التي يستفزني ذكرها . لم يدم هذا طويلا ، ولكنه كان من أشنع الشتائم التي تغيظني في الطفولة المبكرة ، فلا أظن أنني كنت أتجاوز الرابعة أو الخامسة من العمر ، والطريف أنني استشرت ( اليوم ) معجم " لسان العرب " ، فلم أجد لزنع أي ذكر !! 
 وأذكر في نفس المرحلة العمرية أن حفل زفاف كان يقام في دار العطاطرة ، فانطلقت في غبش الغروب عبر أكوام نفايات الأجران لأشاهد الحفل ، فإذا بكلب رابض بين الأكوام ، فاجأني بأن هبش ( إليتي ) فاستدرت عائداً إلى دارنا ، وأنا أصرخ بإيقاع من بحر ( المتدارك ) في بعض تحولاته : 
طيـ... ي – طيـ...ي : الكلب الكلب
 لا أدري هل ضحكت الأسرة من فزعي المبالغ ، أم من صياغة لغة التقرير الفني المكثفة ، مهما يكن فقد ذهبوا بي إلى مكتب الصحة الذي حولني ( منفرداً ) إلى السنبلاوين ، ومنها إلى مستشفى الكلب في القاهرة ، وظللت به أسبوعين ، احقن بمضاد داء الكلب ، ورجعت ( أكثر بياضا ) بعد أن شاهدت القاهرة من شباك عربة الترحيلات مع المساجين ، عائدا إلى السنبلاوين ، فالقرية !!
 وأذكر من اللعب باللغة في تلك المرحلة أنني كنت أنام في غرفة شتوية ، كان يطلق عليها ( الخزنة ) – وهذه غير القاعة – حيث الفرن – قريبا من أمي وأبي ، وكان عثمان أبو هلال ( المسحراتي ) يتمهل تحت شباك الخزنة ويغني ، وهو يضرب الطبل الضخم المعلق بعنقه ، وينشد أشعاراً بصوت مؤثر ، وفي الصباح قلت لأمي : أنا سمعت عثمان أبو هلال بيغني لكي ، ولأبويا وبيقول : 
ع النباطية .. ع النباطية
اصحى يا حسن .. اصحي يا زكية
وحسن هو أبي ، وزكية اسم أمي ( طيب الله ثراهما ) ، انطلقت أمي في الضحك متعجبة من هذا الطفل  ( العفريت ) وأصبحت هذه العبارة من مأثورات طفولتي المخترعة المبكرة .
 وذات يوم – وكنت ألعب مع نظرائي في العمر – تحت عربة بضائع سكة حديد – مركونة على الشريط ، وحدث أن تحركت العربة ربما سنتيمتر واحد ، لكنه كان كافيا لدهس إصبع طفل آخر ، فلاحقتني تهمة أنني الذي حركت العربة !! روحت دارنا ، وجلست على الطبلية للغداء ، وإذا بضابط الشرطة ( وهو يعرف أبي جيدا ) يطرق الباب ويدخل ، ويقول : فين الولد محمد حسن ؟ فإذا بي أنهض من بين إخوتي ، وأقول بعبارة بينة ومباشرة : أنا محمد حسن المتهم !!
 إنني أسائل نفسي إلى اليوم : من أين جاءت هذه الصياغة ، وهذه القدرة على المواجهة ، بل من أي قانون اقتنصت وصف " المتهم " وأنا لا أتجاوز الخامسة أو السادسة ؟!