طارق الشناوي يكتب: الفتاة المغتصبة رفضت الصمت فتحدث عنها العالم

الفجر الفني

بوابة الفجر


ولما جاء اليوم الثالث فى فعاليات المهرجان شاهدنا فيلما كاملا ناطقا بلغة الضاد المظلومة دوما فى أغلب المهرجانات الكبرى، قضايانا دائما حاضرة على الشاشات، إلا أنها تُصنع بعيون وفكر غربى يُطل على المشهد بعين مختلفة، مثلما نرى قضية اللاجئين تُسيطر على قسط وافر من الأفلام فهى الأهم حاليا، لأنها تؤرق الضمير العالمى.

 

المخرجة التونسية كوثر بن هنية التقطت من الواقع هذا الحادث الذى لا يمكن أن يبرح الذاكرة، حيث كان حديث المجتمع الدولى، وخاصة فرنسا، قبل نحو عامين بعد أن اخترقت الجريمة لبشاعتها حدود (تونس الخضراء)، اغتصب ثلاثة من رجال الشرطة فتاة تونسية، الأهم أن الفتاة رفضت الصمت فتكلم العالم، ونبتت فكرة التوثيق على شريط سينمائى.

 

أثناء مشاهدتى للفيلم تردد بداخلى هذا السؤال: هل من الممكن أن تسمح الدولة فى مصر بتوجيه نقد لهذا الجهاز الحساس بطبعه فى مواجهة النقد مع اختلاف الدرجة بالطبع؟، عدد من الأفلام كشفت سلبيات وقصورا أقل حدة مثلما حدث فى فيلمى (حين ميسرة) لخالد يوسف و(هى فوضى) ليوسف شاهين وخالد يوسف، وعرضت جماهيريا قبل ثورة 25 يناير، إلا أن الشرطة من بعدها وبتعليمات صارمة صار أى سيناريو يتناول من قريب أو بعيد الجهاز الأمنى يحصل أولا على موافقة الجهاز الأمنى، حدث ذلك فى زمن العادلى عندما كان ممسكا بقوة كل الأوراق ولا يزال قائما حتى الآن مع تعدد وزراء الداخلية بعد الثورة وهروب العادلى الذى يستحق قطعا الآن فيلما سينمائيا.

 

الفيلم الناطق بالعربية يمثلنا كعرب فى (كان) فى قسم (نظرة ما) للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، التى شاهدت لها من قبل فيلميها الرائعين (شلاط تونس) و(زينب تكره الثلج)، هل توثيق هذا الحادث فى عمل فنى سيؤدى لا محالة إلى مزيد من الاحتقان بين الشعب والشرطة؟، والأمر الآن لا يحتمل هذا الترف، هذا قطعا ما تردد هناك، فى تونس فعلوها ووافقت الدولة على عرض الفيلم كاملا، ولم تطلب من أجل إحداث التوازن دراميا بتقديم وجه إيجابى للصورة، إلا أن الواقع بالفعل أفرز عن شرطى شجاع وبرتبة أقل ممن التقتهم البطلة التى أدت دور الضحية مريم، وهو بالمناسبة اسمها الحقيقى، عندما أبدى تعاطفا معها ورفض وضع (الكلبشات) الحديدية فى معصمها إلا بإذن النيابة، كما يقضى القانون، فعادت مع نهاية أحداث الفيلم إلى بيتها، إلا أن الصورة النهائية الراسخة التى تتبقى فى الذاكرة هى أن هذا الجهاز به فساد عميق.

 

وكان هذا الحادث تم توثيقه فى كتاب فرنسى، ومريم الحقيقية تعيش الآن فى فرنسا، نعم لدينا أكثر من فيلم مصرى تناول الاغتصاب قبل نحو 30 عاما، وذلك نقلا عن أكثر من حادث مماثل جرت وقائعه فى مصر وأطلقت عليه الصحافة (اغتصاب فتاة المعادى)، حيث كانت الأحداث هناك، ومرة أخرى (اغتصاب فتاة العتبة) عندما تكرر الحادث فى واحد من أكبر الميادين فى مصر، كان فى المرتين المغتصبون مجموعة من المنحرفين، وتوثيق فعلتهم لن يمر بأى مشكلات رقابية، بينما خطورة الفيلم التونسى أنه يفضح الجناة الذين منوط بهم حماية الأعراض وهم ينهشون عرض الفتاة.

 

فلقد اغتصب اثنان من أمناء الشرطة فتاة كانت بصحبة صديقها على الشاطئ، تبادل الأمينان الفتاة وكان ثالثهما يصورها.

 

من الممكن أن تجد تنويعات عديدة خاصة فى عالمنا العربى على تجاوزات لجهاز الشرطة، وفى العادة يتم التعتيم عليها، إلا أن حادث الاغتصاب كان من المستحيل أن يتم محوه أو نفيه لسبب بسيط جدا أن الفتاة رفضت أن تصمت، برغم التهديد حاولت فى البداية أن تذهب للمستشفى رفضوا أن يثبتوا حادث الاغتصاب بحجة قانونية أنه يجب توفر أولا محضر من الشرطة، ولهذا تذهب للشرطة التى ترفض توجيه الاتهام، فهل تتهم الشرطة الشرطة، بحجة أنهم ربما كان المغتصبون ينتحلون صفة شرطى حتى عربة الشرطة من الممكن ألا تكون خاصة بهم كجهاز للشرطة، حرص السيناريو الذى وضعته المخرجة على أن يمنحنا بين الحين والآخر فى بنائه الدرامى والفنى إحساس التعامل مع الوثيقة من خلال تقسيمه الفيلم لعدة وقائع زمنية، وكأنك تقرأ صفحات كتاب، الشرطة حاولت بكل وسائل التعذيب البدنى واللفظى الممكنة وغير الممكنة أن ترغمها على الصمت، حاولوا مقايضتها بعدم نشر شريط الاغتصاب مقابل التنازل عن المحضر أو تزوير أقوالها، لكنها أصرت على أن تروى الحقيقة. الفيلم يفضح وزارة الداخلية وكيف أنه بدعوى الحفاظ على أمن البلد من حقها أن تتجاوز حتى أمن المواطن الشخصى، وعلى المواطن أن يتحمل ويصمت اختيار اسم (على كف عفريت) بما يحمله المعنى أن المخاطر قائمة وستواجه الضحية، حتى إن إحدى الشرطيات لم تبد تجاهها أى تعاطف لأن لديها أوامر عليا بإغلاق المحضر، بل إنها فى النهاية وصفتها بالعاهرة. الواقعة حدثت قبل بضع سنوات فى تونس بعد ثورة الياسمين، تستمع إلى من يقول إذا اتهمت الشرطة وصارت بعدها مدانة ألا يمكن أن يؤدى ذلك الى انتشار الفوضى فى البلاد، ولهذا على الجميع أن يصمتوا ويتحملوا. لا أدرى بالطبع حجم الحقيقة وحدود الخيال فى الوقائع كما رأيتها سينمائيا، لأن الوقت لا يتسع أمامى للمراجعة والتدقيق، ولكن الفيلم دراميا يقف فقط عند الليلة التى شهدت الجريمة، إلا أن القضاء فى تونس انتهى إلى إدانة المغتصبين بأحكام قاسية ومستحقة طبعا.

 

من أشد اللحظات عنفا وتصل لحدود السادية هى تلك التى قرر فيها المحققون الدفع بورقة ارتكاب فعل فاضح فى الطريق العام توجه للضحية حتى تصمت، حيث قالوا لها إنها كانت تتجول مع صديقها وليس خطيبها، هذه واحدة، أما الثانية فهى أن القبلة بينها وبين صديقها تجاوزت حدود القبلة، رغم أن هذا لا يعد طبعا مبررا، حتى ولو كان صحيحا، لجريمة الاغتصاب إلا أنه من الممكن أن يدفع الفتاة للصمت خوفا من الفضيحة. حرصت المخرجة على أن تقدم أغلب لقطاتها قريبة ومتوسطة حتى تنقل أحاسيس ومشاعر الممثلة، واسمها بالمصادفة الحقيقى مريم، كما أنها حرصت على الانتقال بين أكثر من قسم شرطة حتى تُثبت أن الفساد متفشى فى هذا الجهاز الحيوى، ووصلت بالفعل الرسالة، ولأن المجتمع التونسى بناؤه الثقافى قوى فلقد استوعب تماما أن الفيلم يفضح الفساد، ولكنه لا يريد هدم جهاز أمنى، لأن هذا فى النهاية يهدم المجتمع، الفيلم كما علمت سيعرض بعد (كان) تجاريا فى تونس، ومن البديهى أن يُصبح هدفا للعديد من المهرجانات العربية وغير العربية لبرمجته ضمن فعاليتها.

 

وسيظل الواقع هو الأكثر حضورا فى مثل هذه القضايا، مثلما قدم المخرج صلاح أبوسيف (ريا وسكينة) عن أشهر سفاحتين فى التاريخ، والمخرج عاطف سالم فى (إحنا التلامذة) عن وقائع حقيقية لجريمة قتل، بل إن شكرى سرحان كان يلعب فى هذا الفيلم دور شقيقة سامى سرحان الذى كان وقتها يقضى العقوبة بتهمة الاشتراك فى الجريمة وخرج من السجن بعد انقضاء المدة القانونية ليواصل التمثيل فى عدد من الأفلام الكوميدية، وتلك طبعا قصة أخرى. ويبقى لنا كعرب فيلم قادم على شاشات (كان) للمخرج الجزائرى كريم موسوى (حتى تعود الطيور).. فإلى الغد.