د. رشا سمير تكتب: (خريف البراءة) قصائد "الحبر الأسود" على جدران الدم والكراهية

مقالات الرأي



■ الرواية الحائزة على جائزة الشيخ زايد للكاتب اللبنانى عباس بيضون


متى تقع العقول المستنيرة فى قبضة طيور الظلام تتحول الأفكار إلى طعنات خنجر مسموم، وتتحول الكلمات إلى طلقات رصاص بين أيدى هؤلاء ممن لا يدركون المعنى الحقيقى للحياة.

عندما ترتفع أصوات الباطل فى وجه الحق ينزلق البشر إلى هوة العنف والإرهاب.. حين يتصور البعض أن حمل السلاح فى وجه البشرية نضال.. وأن إطلاق اللُحى وتقصير الجلابيب هما جوهر الأديان.. تتلون السماحة باللون الأسود.

حين يصبح أصحاب المبادئ فى أوطانهم مغتربين، يرتمون بين أحضان الإرهاب ويلتحفون بالحبر الأسود ليكتبوا قصائدهم المعلقة على جدران الكراهية.. إنها قصة كل يوم.. وحكاية كل عصر.. وتاريخ يسرده الماضى بصوت الحاضر.

فى رواية رائعة استحقت أن تنال جائزة الشيخ زايد للكتاب لهذا العام.. كتب الصحفى اللبنانى والروائى عباس بيضون روايته الأخيرة (خريف البراءة) التى تقع فى 190 صفحة من القطع المتوسط والصادرة عن دار الساقى للنشر.. وهى الدار التى استحوذت على أغلب جوائز هذا العام فى الرواية والأدب وحتى أدب الطفل.. الحقيقة أن اختيار الساقى للأعمال المقدمة إليهم وقراءتهم لتلك الأعمال بعناية فائقة جعلتهم على رأس دور النشر التى استحقت الريادة والنجاح.

رأت لجنة تحكيم جائزة الشيخ زايد، أن الرواية متميزة لأنها تتناول موضوع الإرهاب على نحو متميز، فقد جعلت الرواية موضوعها الاختلاف بين أب إرهابى يتسلط على إحدى القرى ويفتك بأهلها وبين ابن متسامح يطمع أن يعيش الحب وأن يستمتع بالحياة.. وهذا التناقض هو ما استوقفنى كقارئة للرواية.


1- بداية برائحة الدم

تدور الأحداث فى قرية (صيعون) وتُسرد بصوت الراوى العليم وهو غسان بطل الرواية الذى يحكى منذ البدايات كيف قتلت أمه، وكيف أن القاتل هو أبوه الذى شك فى سلوكها فلم يدع لها حق الدفاع، وقرر أن يغسل يديه بدمائها حتى يصفق له المجتمع الكاذب.. وحتى يُدارى ضعفه الجنسى الذى جعله يتسلط على العباد من منطلق القوامة التى يفتقدها!.

يبدو أيضا منذ السطور الأولى أن الابن مازال يشكو ضعف نفسه ضد مجتمع لم يرحمه بعد مقتل أمه وانتقاله إلى خانة الأيتام، بل ظل المجتمع طوال الوقت يشير إليه بإصبع الأب القاتل كلما ذهب إلى مكان.

يصف الروائى هذا المشهد ببراعة القاص قائلا:

« قتل والدى لأمى لصق بي، كان إرثا لا أستطيع أن أتحرر منه، كنت موجودا فى الاحتياط ولا أقدر على أن أصبح بسهولة فى العائلة.. هذه الوصمة كالوحمة على جلدى ولا ينساها أحد عنى، كأنى ابتدأت منها، حتى نظرات الآخرين لم تخل من الإشفاق أو الإدانة، كانت هذه هديتى تقريبا، لقد جئت من فعل قتل.. من جريمة.. حتى إننى عرفت طريقى إلى المسجد وأنا فى الثالثة عشرة، وتعمدت أن أحمل القرآن بيدى وأن أصوم أياما من الشهر.. وذلك كله لم ينجح فى تطمينى».


2- عودة الأب الطفل

الأب الذى يقتل الأم بيديه ويفرّ إلى درعا حيث يتزوّج وينجب، ثم يعود سادياً، مثقلاً بالتطرّف، قاتلاً باسم الله وبما لا يخالف شرعه!

يعود الأب مسعود حاملاً لواء الإسلام الدموى فى ثوبه الأسود، حتى يملأ السلاح القرية ويدب الذعر بين كل من يسكن القرية.

بعودة الأب تأخذ الرواية منعطفا جديدا وكأن الرواية قسمت إلى جزأين.. جزء ما قبل الرحيل وجزء ما بعد العودة.. يحدث الصدام ما بين غسان وأبيه مسعود.. يُنكَأ الجرح.. وتطل جثة الأم من بين السطور وكأنها الشبح الذى يعانق الأبطال طوال القصة.

فى مواجهة محتدمة بين الأب والابن.. حوار لم يتوقع الأب أن يسمعه.. يقول غسان:

«أنا مش حدا.. أنا بلا أم وبلا بى.. أنا مش بس خسرت أمى لما قتلتها أنا خسرت بيي.. بدك يانى أكون ابنك؟ شيلها من راسك.. أنا مخلوق بها لدنيا بلا والدين.. بأحب أقول هالحكى لكل شخص.. بعرفو بس بخاف ما يصدقنى.. فى حدا بلا أهل؟ إيه فيه حدا مقطوع من شجرة، ولكن وين الشجرة؟ مش موجوى.. أنا باخاف إنى أكون ابن الجريمة.. ومن حق الناس تطردنى.. خالى قبلنى بس أنا ما فيى كون ابنو.. ما فيى لبسو الجريمة اللى جحيت منها».

ولأن الدم لا ينجب إلا دما ولأن العنفُ لا يجر إلا العنفَ، ولأن سواد الإرهاب يحُول دائما من رؤية ضوء الفجر.. يشتد الصراع على مستويين.. الأب وإبنه من ناحية والأب وأهل القرية من جهة أخرى.. ويتحول السلاح بين يدى الأب القاتل ليس فقط سلاحا يقتل به للدفاع عن شرفه ولكنه سلاح يقرر أن يعيد به تقويم أخلاق الآخرين.

الحقيقة أن الكاتب هنا استطاع وصف نفسية الإرهابى الذى ينضم إلى الجماعات الإرهابية بصفة الدين.. وكيف أنه ينصب نفسه نبيا ينشر دعوة لم تُنزل عليه.. أو قاضيا يمسك ميزان العدالة بين يديه حتى لو مالت كفة الضلال فوق كفة الحق.


3- مذبحة الدم

القاتل القديم لم يعد يكتفى بجريمة داخل جدران العائلة بل يتوحش القاتل المتأسلم فيقرر تعليق المشانق لأهل القرية.. هذا زنديق.. وهذا كافر.. وهذا لا يصلى.. وهذا يغضب الله بشرب الخمر..

فيشنق أبو ثائر مع أربعة من أفراد عصابته، إنهم يستحقون الشنق!.. ولكن من نصبه قاضيا وجلادا؟

يحرق الشيخ معروف بالقفص، ويصلب الدكتور صالح بتهمتى السحر والصلة بالشيطان.

وتفوح رائحة الموت من بين أروقة وأزقة قرية صيعون.. والأخطر من رائحة الموت وحمل السلاح، هو التأثير الذهنى للبشر ممن يجاورون الإرهاب ويعيشون فى كنفه، وهو على ما أعتقد من أقوى المعانى التى تقدمها الرواية.. المأساة الحقيقية وعقدة الرواية تكمن فى الشباب المراهق الذى يجد نفسه دون إرادة منجذباً إلى فكرة الفضيلة الزائفة والدفاع الباطل عن حق أريد به باطل.

يقف شباب القرية فى ظهر الأب العائد مأخوذا بالسلاح والبطولة الزائفة متطلعين إلى حمل لقب البطولة، وكحال أى قرية لا يتسيد فيها سوى الرجال تظل النساء فقط مراقبات للموقف.. يتبادلن أحاديث الصلب والحريق والتغريق من خلف الأبواب المغلقة، هامسات مترقبات.

لم يعد أحد فى القرية يرى سوى اللون الأحمر.. وأصبح الصوت الوحيد الذى يسمعه أهل القرية هو صوت نعيق البوم.. ولا تطرح الأشجار سوى رؤوس الأموات المعلقة فوق الأغصان.

يصبح غسان هو صوت القرية وعمدتها.. فيروح ويجىء بعباءته البيضاء ولحيته الطويلة يبشر وينفر ويهدد بالترويع، ويشهر السلاح فى وجه كل من تحدثه نفسه بأن يعصى شرع الله.

إنّها رواية البشر الذين يقعون فى أيدى الضلال فيعمى أعيونهم.. إنها رواية الحشاشين أتباع حسن الصباح.. إنها رواية الجماعات الإسلامية المتطرفة التى اغتالت الرئيس السادات والنقراشى باشا.. إنها رواية داعش وجماعة بيت المقدس التى تقف بالمرصاد والتى أحرقت الطيار الأردنى الكساسبة  بدماء باردة.. إنها رواية الجماعات التى تدعى الفضيلة وتغتصب النساء وتأخذهم سبايا متذرعين بشرع الله وهو برىء منهم.

كان غسان يعود فى كل خطوة يخطوها إلى شيخه قائد الجماعة الشيخ عثمان.. كانت رسائلهما تتم عبر الفيسبوك.. وكان الجواب الذى يأتيه فى كل مرة هو رسالة مقتضبة بأن يتشدد ويروع.. ولم يستح الشيخ عثمان أبدا فى أن يستعمل كلمة «الإرهاب» ضد «عدو الله وعدوكم».. ووصية الشيخ عثمان كانت تستعجل مسعود دائما للقيام بذلك.


4- قصة تتكرر

وصل الأمر بجماعة مسعود أنها بدأت فى تهديد جماعة أخرى كان مقرها القرية وهى جماعة «رايات الهدى».. وهنا يسلط الكاتب الضوء على خيط هام وهو كيف تتم تسمية تلك الجماعات بألقاب وألفاظ تؤكد أنهم مع الحق والنور والهدى وأنهم ضد الضلال وهم الضلال نفسه.

أعلن أنصار مسعود الحرب على جماعة «رايات الهدى».. فأفرغوا محل أحد أنصار الرايات تحت تهديد السلاح.. فانكسرت شوكتهم وأصبح هذا الحادث بمثابة الريادة الحقيقية لأنصار مسعود.

ويذكرنا الكاتب كيف أرسل من قبل رجال رايات الهدى أم هنية المومس وبناتها إلى الهلاك بتقييدهن على شاطئ البحر وإرسال سلك كهربائى متصّل بأعناقهنّ مربوط بمحوّل، وإزهاق أرواحهنّ حرقًا. ولطالما كان غسّان يزور هذه المرأة، ليأنس بهن ويمضى الليل الطويل برفقة إحدى بناتها فى ليالى وحشته الطويلة بدلا من قيام الليل!

وصف الروائى المشهد الذى نراه كل يوم بالعراق وسوريا وليبيا وباقى الدول التى عانت من جراء الإرهاب، بل هو المشهد ذاته الذى طالما شاهده أبناء إيران فى الشوارع عقب حكم الخومينى.. أنصاب مرفوعة وسط باحة البلدة مُعلق عليها بشر من مختلف الأجناس والأديان.. مشنوقين بحبال غليظة ملفوفة على أعناقهم.. وقد تدلت ألسنتهم وجحظت عيونهم.. منهم من هو مفتوح الفم ومنهم من هو متدلى اللسان وعلى خديه كدمات سوداء.. بلا تبرير أو حق.. مجرد ورقة معلقة على أجسادهم مكتوب عليها بالحبر الأسود ((كُفار)).


5- عشق بين الضلوع

من بين نصل الأسلحة ودوى المفرقعات والسواد الذى اتشحت به المدينة يأخذنا عباس البيضون إلى قصة حب تبدأ وتترعرع فى بيت عمة غسان التى انتقل إلى بيتها بعد رحيل أبيه وموت أمه.

يسلط الضوء على هامش العنف، لتظهر قصة حب تنمو فى أحضان الابن التائه الذى يرتبط مع أبناء عمومته سامى وسامية ولكن الحقيقة أن ارتباطه بسامية يبدو من نوع آخر.. إنه بداية قصة حب تدغدغ مشاعره فتجعله يتمسك أكثر بأن يكون رسولا للعشق بدلا من أن يصبح نبيا للضلال مثل أبيه.

الحقيقة وإنصافا للرواية التى فازت بجائزة الشيخ زايد، يجب أن أقول أن الحبكة الروائية بالأحداث مقنعة وغير مفبركة ولم أشعر أبدا أنها كانت دخيلة على القارئ بحدث ربما يضعها فى دائرة الاتهام.

وعلى الرغم من عدد الصفحات القصيرة بالرواية التى تصل إلى 190 صفحة إلا أننى شعرت أن تفاصيل الرواية كانت مكتملة ولم أقل كعادتى فى نهاية الروايات: ليته أطلق العنان لقلمه قليلا.. على العكس.. جاءت الرواية سريعة الأحداث وافية الأركان.

ربما تمنيت لو أن الكاتب استخدم اللغة العربية الفصحى فى الحوار لأن الحوار باللغة اللبنانية الدارجة جعلت أجواء الرواية بعيدة قليلا عن لغة الإرهاب التى غلفت الرواية..

أيضا داخلنى بعض التوهة بين الأسماء وعناوين الفصول فى البداية سرعان ما اتضحت..

وأخيرا ربما كان عنوان الرواية غير مشوق إلا أنه جاء مناسبا جدا لأحداثها.. المشكلة أن المحتوى ظاهر من خلال الكلمات المكتوبة على ظهر الرواية ولكن العنوان جاء موحيا قاسيا بل ويحمل المعنى الحقيقى للإرهاب حين قضى على البراءة بين ضلوع البشر وفى عيونهم، وجعل موت البراءة مرتبطا بالخريف الذى تذبل معه الزهور وتصبح الأشجار عارية فى مواجهة الريح.

إن خريف البراءة رواية جادة تناقش موضوعًا هامًا ونهايتها الدرامية القاسية جاءت أيضا نسخة من واقع أليم.. عقب نهاية الرواية فهمت لماذا أهدانى الروائى الرائع عباس بيضون روايته موقعا عليها بالآتى: «إلى د. رشا.. البراءة مع ربيعها.. مع مودتى».

نعم سيدى.. ربما يكون للخريف ألف وجه أما الربيع فله وجه واحد.. هو البراءة.