"الركايبى".. شهيد "فدى" مصر

منوعات

مدير أمن الإسكندرية
مدير أمن الإسكندرية ومساعد الوزير يزوران مصابى المرقسية


الخير والستر.. آخر رسالة من البطل "الحسينى" لى قبل إصابته بساعة

■ شريف الحسينى رمز الصمود.. أسس أهم جروب فيسبوك دوار العمدة

■ لقاء وزراء وسفراء ومثقفى مصر به حوَّل العالم الافتراضى لواقع


أمسك بالقلم والزخم يملأ رأسى، من أين أبدأ، أقول بسم الله الرحمن الرحيم، سأكتب عن حادث الأحد الحزين بكنيستى طنطا والإسكندرية وما تبعه من أحداث، أركز فى حادث الكنيسة المرقسية بالإسكندرية، ليس تقليلا والعياذ بالله من حادث كنيسة مار جرجس بطنطا، ولكن لمعرفتى ومعايشتى للمكان والزمان والأشخاص.

الشارع الذى تقع فيه الكنيسة يطلق عليه السكندريون (شارع كنيسة القبط)، وهو أحد أهم وأشهر وأقدم الشوارع التجارية بالمحافظة، يحتضن تلك الكنيسة العريقة، ويتوسطه شارع السلطان حسين، وصولا لشارع سعد زغلول وشارعى صلاح سالم وسيزوستريس، تلك الشوارع أقدم شوارع المدينة وشهدت عصرها الذهبى، منذ حكم أبناء محمد على، وما زالت بقايا ذلك العصر الذهبى باقية فى بعض العمائر، التى بناها الإيطاليون والفرنسيون واليونانيون.

شارع الكنيسة بالتحديد ما زال يحوى عددًا من تلك العمائر القديمة، التى لا يتعدى ارتفاعها الطابقين، وهى من أملاك الكنيسة المرقسية، ومؤجرة للمكاتب والشركات بإيجار شهرى قديم (ستة جنيهات بالشهر)، ويوجد فى الشارع أيضًا أشهر محل هريسة، بدأ صاحبه من هناك قبل أن يفتح الله عليه ويمتلك سلسلة محلات الهريسة الشهيرة بالمدينة، التى تعتبر إحدى علامات ومزارات المدينة، ليصل الأمر بالرجل ليكَون ثروة له ولابنائنا من هذا المحل، وتتجسد هذه الثروة الآن فى شراكة مستشفيات وخلافه.

يوجد أيضًا أقدم محل لبيع آلات العزف الموسيقية والملابس بأنواعها، أتردد على ذلك الشارع منذ سنوات، فيه مكتب مؤسسة روزاليوسف بالمدينة، مجرد المشى فى هذا الشارع كفيل بتغيير المزاج، وكأنك سافرت عبر آلة الزمن، فاختيار تفجير الكنيسة القابعة بذلك الشارع سببه ضرب عدة عصافير بحجر واحد، منها البابا.. فى أقدم كنيسة بالمدينة، ومنها لأنه شارع تجارى يتوسط قلب المدينة النابض والذى يعج بكل الأطياف.

من يردد أقاويل التقصير ويطالب بإقالة وزير الداخلية أقول له هذه المرة «خلاص.. بح»، أين تقصير الداخلية فى حادث الكنيسة المرقسية، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وعلى رأسهم لواءات شرطة وكما يوجد جهاز إنذار، فجر الشاب الإرهابى نفسه بعيدا عن الجهاز، عندما أرجعه الضابط ليمر عبر الجهاز، وبمجرد عبوره انطلق جهاز الإنذار، فأدرك الشهيد البطل عماد الركايبى أن الشاب مفخخ، فأمسك به واحتضنه فقام الشاب بتفجير نفسه فورا، ليلقى الركايبى ربه بعدما تقطع جسده النبيل ليحمى مئات الإخوة الأقباط الذين كانوا خارجين فى تلك اللحظة من باب الكنيسة بعد انتهاء الصلوات.

تخيلوا، لا قدر الله.. لو كان ذلك المفخخ دخل الكنيسة لحظة الخروج، ماذا كان حدث؟.. إذن يا سادة يابتوع إقالة وزير الداخلية اهدأوا شوية، وبطلوا تجلسوا فى كنبة مريحة وتمسكوا الموبايل أو اللاب وتدلوا بدلوكم، كأنكم خبراء التأمين بالعالم.

الشهيد عماد الركايبى رئيس مباحث العطارين لديه ثلاثة أبناء، ملك فى الصف الخامس الابتدائى، ويوسف فى الصف الثالث الابتدائى، ويس ثلاث سنوات، كان مثالا وتجسيدًا حيًا للرجولة والأخلاق، لا يغلى على خالقه، شيعت جنازته مساء يوم وقوع الحادث الأليم، فى مسقط رأسه بالمحمودية، حيث يشغل والده منصب العمدة، وعائلته إحدى أكبر عائلات محافظة البحيرة.

وأذهب للحديث عن الصديق شريف الحسينى، اختصارا ومن الآخر، هو تم ترقيته ونقل للتحقيقات بمبنى مديرية أمن الإسكندرية قبل أسبوعين، بعد أن أمضى ثلاث سنوات مدير أمن مكتبة الإسكندرية وقبلها بسيوة، تم تكليف الخلوق شريف الحسينى بالخدمة فى الكنيسة المرقسية بمحطة الرمل مع طاقم كبير من الضباط، لتواجد البابا تواضرس للصلاة فى ذلك اليوم.

بدأ التوافد من الرابعة فجر الأحد، لينفجر الشاب وتتطاير الشظايا على العميد شريف الحسينى الذى تم نقله لمستشفى الشرطة متأثرا بجراحه جراء شظايا بالبطن والظهر، انفجار فى وريد الذراع ووريد المثانة، وبعد جراحة استمرت ثمانى ساعات تبين دخول شظية فى الكبد وزجاج ومسامير، وانتهت الجراحة بعد أن تمت معالجة ما أمكن معالجته، وتم ترك الشظايا الأخرى التى لن تتحرك مؤقتا، لحين إجراء جراحة أخرى، لينتقل للعناية المركزة (48) ساعة.

المستشفى لا مكان لقدم بها، تواجد أصدقاؤه وأهله ومحبوه، شريف أعرفه منذ عام ونصف العام تقريبا، اكتشفت شخصيته غير الشرطية، اجتمعنا معا فى جروب يومى عبر الواتس آب، بحكم أنه أدمن أكبر جروب يضم صفوة أعضاء نادى اسبورتينج، إذ يضم أكثر من ستة آلاف عضو، وضع لهم شروطا محددة، من يدخل الجروب الذى يناقش القضايا الخاصة بالنادى يجب أن يكون عضوا، ويرسل كارنيه العضوية، حتى لا تكون مشاكل وقضايا النادى على المشاع.

تمتع بسلوك يومى، اعتاد إرسال دعاء دينى لغالبية أصدقائه بالصباح، مهما كانت أعماله وانشغالاته، حتى وصلتنى الرسالة الصباحية ليوم الحادث، دعاء بالخير والستر، شريف الحسينى يعرفه أغلب المصريين من أسوان لمطروح عبر الفيس بوك، فهو صاحب فكرة (دوار العمدة)، أشهر جروب عبر الفيس بوك يضم أغلب وزراء مصر السابقين والحاليين والسفراء وأساتذة الجامعات والمستشارين والإعلاميين والفنانين والمثقفين والكتاب، ليكون حسب جملة شريف الشهيرة حول العالم الافتراضى دوار العمدة عالم واقعى، من لحم ودم، شريف هو من عرفنى على ذلك العالم وأدخلنى به، حيث سن فى ذلك الجروب شيئا غريبا، وهو لقاء شهرى أو موسمى مع الأعضاء.

يتم الترتيب ويكون الاجتماع فى مكان مفتوح، لقضاء يوم يتعارف فيه الأعضاء معا على غذاء وبرنامج ترفيهى إما بالإسكندرية أو القاهرة، وهكذا تحول دوار العمدة لعالم واقعى، يلتقى أعضاؤه الذين تقاربوا معا لحضور أفراح أولادهم، وهم قبل عام لم يكونوا يعرفون بعضهم البعض، يهنئون أولادهم بالنجاح والتخرج والأفراح وأعياد الميلاد، بل وصل الأمر إلى أن أصبح بالجروب أعضاء مصريون مقيمون بأوروبا، فما أن يسافر أحد أعضاء الجروب حتى يلتقى بالأعضاء المقيمين بالخارج، ليكون دوار العمدة تجسيدا نقيا فعالا وإيجابيا فى عالم الفيس بوك وأسسه الحسينى.

دعانى الضابط البطل منذ أسبوعين للمشاركة فى الاجتماع السنوى، بمناسبة شم النسيم مع أعضاء الدوار، قائلا انت عايزة تكتبى عن فكرة الدوار العبقرية، تعالى وشاركى على الطبيعة، فطلبت تأجيل فكرة المشاركة لحين معرفة أجندتى فى تلك الفترة، فألح فى الطلب فوافقته على مشاركة الدوار هذه المرة، شاركتهم تجمعهم الراقى والمثمر، والذى أعتقد أنه سيتم إلغاؤه بعد الحادث الأليم، شريف الحسينى إنسان برتبة ضابط، تجده جالسا وسط ضباطه الأصغر رتبة وأمنائه ومخبريه أول يوم رمضان يدعوهم للإفطار معا.

كان عامل لهم يوم شم النسيم وليمة فسيخ ورنجة، يوكمان قابل ببشاشة زوار مكتبة الإسكندرية من المشاهير والمفكرين، عندما كان يعمل بها وآخر اليوم يجمع أصحابه على كافيه بالبحر، شوية سندوتشات والضحكة الجميلة والنكتة، خفة الظل لا تفارقه، دائما لا يحمل للدنيا همًا، رغم أن الدنيا سلبت منه أعز ما يملك فكان من الصابرين، قبل ثمانية أعوام وبينما كانت زوجته وابنته الوحيدة عائدتين من القاهرة بعد مشاركة ابنته فى مسابقة تابعة لنادى اسبورتينج فى السباحة، فهى من الأبطال، أثناء العودة قررت الأم أخذ سيارة خاصة للحاق بدرس ابنتها، بدلا من ركوب الباص الخاص بعودة المشاركين للإسكندرية، وإذا بسيارة نصف نقل تصطدم بهم فى الطريق، فتلقى الأم ربها فى لحظتها وتلحق بها الابنة الوحيدة لشريف بعد ثلاثة أيام.

فقد شريف أسرته كاملة واستغرق عامين بعد ذلك للخروج من المأساة وتكوين أسرة جديدة، مع الزوجة الجديدة، السيدة منى عبدالعال، وينجب لجين وسيف، ومن نوادر الحزن أن آخر بوست لشريف عبر صفحته الشخصية كان الخميس الماضى، ناشرا صورة لزوجته الراحلة وابنته الفقيدة بمناسبة مرور ثمانية أعوام على رحيلهما الذى هز الإسكندرية وقتها وللآن يتذكر المحادثة الجميع، شريف الخلوق، المهذب الضحوك الذى كنت أتمنى أن أكتب سطورا عنه، ولكن ليس بمناسبة أليمة، شفاك الله يا شريف، وأعادك لمحبيك وأصدقائك الذين يدعون لك ليل نهار بتمام الشفاء، ده وجه من رجال الداخلية يا خنازير الإخوان، ده وجه من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه شريف الحسينى رمز الرحمة.