"مرام".. رواية لبنانية تفضح صراع المرأة والتشدد الدينى

العدد الأسبوعي

الحرية - تعبيرية
الحرية - تعبيرية


امتطت أحلامها وعلقت آمالها على مشاجب غد مجهول


عندما تقرر سارة أن تخلع أصفاد العبودية الذكورية وتهرب إلى حيث عالم أكثر رحابة ودنيا بلا حدودأوقيود، لا يفسح لها القدر مكانا بل يأخذها فى قبضته من جديد.

تحلُم فيوئد الحلم..تطمح فيقتل الأمل..تبنى فيهدم الجدار..تشدو فيقتل صوت الكروان بين ضلوعها..ففى عالم الفيمتو ثانية وعصر الإنترنت لازالت هناك نساء تحبو لتهرب من مجتمعات عربية تقمعها إلى حرية تتمناها ولا تجدها.

هذا بإختصار هو ما أرادات الروائية اللبنانية فدى أبو شقرا عطا الله أن تقوله فى روايتهاالتى تُحاكى الواقع الإجتماعى الصادرة عن دار الساقى للنشر فى بداية عام 2017 فى 222 صفحة من القطع المتوسط..
تستهل الروائية الصفحات الأولى للكتاب بإهداء يعبر عن مكنون الكاتبة وبالتالى عن بطلة الرواية التى أعتقد إنها لا تبعد كثيرا عن شخص الكاتبة:

(إلى كل من دفعنى لأمتطى الأحلام..وأعلق أمالى على مشاجب غد مجهول، ولأجعل من رحلة الفرار فى الحياة رحلة قرار أو مشروع بقاء).

الروائية فدى أبو شقرا عطالله ولدَتْ في الأوّل من شهر أغسطس عام 1966 في بيروت.. نشأت وترعرعت في قريتها "عمّاطور"..ولم تُغادر هذه القرية الشوفيّة التي ارتسمت ملامحها في كتاباتها،إلا بعد زواجها من الإعلامي سليمان عطالله لتستقر معه في إحدى ضواحي بيروت..الروائية أيضا لها العديد من الأعمال التى تندرج تحت أدب الطفل.


فى سجن العم المتشدد:

تبدأ الصفحات الأولى للرواية بالبطلة سارة وهى تخلع نقابها الذى سُجنت خلفه طويلا وترميه على الأرض لترتدى رداء مخملى كانت تمتلكه أمها، وهى الصورة التى حاولت بها البطلة أن تفتح باب السجن الذى بدا لنا منذ السطور الأولى أنها كانت تعيش فيه.


تقول الروائية فى وصف لحال البطلة بقلمها الرشيق:

(كانت تلزمها خطوة واحدة وقدر كبير من الجرأة لتواجه نفسها المُحررة فى المرآة، خطوة كانت تختزن كل الخوفمن أن ترى نفسها منتزعة من الثوب الذى فُرض عليها، ففرض على روحها وجسدها القهر والحرمان.. خطوة ملأى بقلق جسدها الذى صحا للتو من غيبوبته ليتعرف إلى لونه، إلى شكله، إلى أبجديته بعيدا عن العفة بحسب قاموس عمها..تُرى هل ستتعرف إليها مرآتها التى ما إعتادت يوما أن ترى منها سوى عينين لوزيتين زرقاويين تتلفتان من هذا النقاب المشلوح أمامها).

تقع ساره في قبضة عمها محمود المتشدد بلا عقل، بلا هوية وبلا منطق..فهي ترتدي العباءة والطرحة إجباري وتتشح بالسواد وهي في العشرين من عمرها خشية أن تكون الألوان الاخري فتنة أو مثيرة للغرائز..تشكو وحدتها لزوجة عمها ولمرآتها حين تخلو إلى نفسها.


إزدواجية ذكورية:

تعيد البطلة على نفسها مرارا وتكرارا كلمات قالها لها المعلم الذى كانت معجبة به وهى فى المدرسة وتعتاد أن تستعيد هذا المشهد والكلمات التى كانت تعطيها الثقة الدائمة فى نفسها كإمرأة وأنثى عاشقة.. وهى كلمات تؤكد بها الروائية على إزدواجية الرجل الشرقى.. الرجل الذى لا يتزوج إلا سيدة محجبة ملتزمة ولكنه يسعى فى الظلام للإيقاع بالأخريات اللائى لا يرتدين حجاب.. وكأن الزى الدينى هو الواجهة التى يريدها ظاهريا ويرفضها فى الباطن:

(تزوجينى لأحررك من هذا الثوب..ولن ألبسك إلا ما يكشف جمالك ويجعلك أسطورة يحسدنى عليها رجال العالم..تزوجينى وسأطربك كل العمر بقصائد حب وغزل..تكونين فيها كل المعشوقات اللواتى مررن فى تاريخ الحب ونسجن أساطيره..تزوجينى لأسكب الخمر، فوق جسدك الحلم، وأثمل منكما..لا..لا..فبعد زواجى منك لن أحتاج إلى الخمر، فجمالك كاف ليشعرنى بالثمالة).

كما تشاهد سارة التلفاز في الخفاء لأنه ممنوع بأمر عمها عند جاراتها..ولازالت تحلم بأن تعيش في بيروت الصاخبة بجمالها وتتمتع بحرية الجسد والعقيدة.

وتذهب سارة إلى خطيبها رشاد الذي يتخطى فارق العمر بينهما العشر سنوات ولكنه يحبها بصدق، لتطلب منه ان يحقق لها حلمها بدخول الجامعه ويتحدى عمها الذي لا يريد لها ان تتعلم وخصوصا أن هذا من حقه لأنه زوجها شرعا من واقع كتب كتابهم.

يرفض رشاد فتنفعل سهى وتقرر الهرب من ضيعتهم الصغيرة إلى بيروت.

بيروت الحياة..بيروت الحب.. بيروت الحلم.

قررت سارة قطع كل صلة لها بماضيها حين تنجح في الهرب من ظلم عمّها وأحكامه الصارمة التي فرضها عليها باسم الدين، فقد أضحى هو وليّها بعد موت أمها واختفاء والدها.


فى الطريق إلى الحُرية:

فى الطريق إلى بيروت تقفز فى شاحنة لتلتقى بشا بإسمه (سيزار) الذى يستضيفها فى شقته حتى تجد مآوى.. ثم تنتقل إلى بيت عمها الثانى وتنتهى علاقتها بسيزار مؤقتا فى تلك اللقطة..

حين تصل سارة إلى بيروت وتبحث عن مأوى تصل إلى بيت عمها يوسف وزوجته أحلام، الرجل المعتدل الذي يحتضنها ويدفعها لإرتياد الجامعة وحتى عندما تطلب منه أن تخلع الزي الديني، يوافقها ويترك لها حرية الاختيار.. وفي محاولة لنسيان الماضي بألامه وهو الطريق الذي عادة ما يتبعه كل من يحاولون القفز بأنفسهم إلى دنيا جديدة، تغير سهى إسمها إلى الإسم الذي كانت أمها تتوق إلى تسميتها إياه..مرام.

تنتقل الرواية بنا إلى حيث تبدأ مرام حياتها الجامعية فى كلية الفنون، متناسية الماضى بعذاباته، وتلتقى مرة أخرى بسيزار الذى يتعلق بها وتقع فى غرامه دون أن يدرى أنها نفس الشخصية التى أخذها بشاحنته إلى بيروت وغير حياتها، ودون أن يتعرف على هويتها بعد أن خلعت الحجاب وتخلصت من الزى الدينى الذى فرضه عليها عمها..وهى الصدفة الذى أجدها غريبة بعض الشئ أو دخيلة على السياق الدرامى للرواية.


إنتقام الزوج:

ويقرر رشاد أن يذهب خلف زوجته ليستعيدها من بيروت، فيترك تجارته وبيته وسط سخط أهله ليسترد كرامته المجروحه وزوجته الهاربة، بدافع الحُب والإنتقام معا.

وحين تصل هى إلى قمم الحُب المستحيل مع سيزار، يصل زوجها على الورق إلى مكانها ويقرر إستعادتها، وحين تأبى يقرر أن يستعيدها بقوة القانون.

فالماضي الذي توهمت أنها تحرّر تمنه، يبحث عنها من جديد ليطاردها فى شخص خطيبها رشاد الذي كتب عليها صداقه الذي يعدّ بمثابة الزواج، ومن حقه إعادتها إلى بيت الطاعة بحسب ما تفرضه قوانين الأحوال الشخصية.

وشرعية الصداق لاي لغيها سوى طعن بوصاية عمّها، فمن أين لها ذلك وعمها يناصبها العداء، وما من سبب وجيه يقنع المحكمة بوجوب التفريق، ووالدها الذي تبيّن لها أنه لم يمت، كما قيل، لاتعرف له مكان؟.


فى أروقة الطاعة:

ويسقط حلم خلاصها من إنذار الطاعة بوفاة عمها الوصى عليها..وتقول ناعية إياه:

" حزنى ليس على موت عمى، فالموت حق..حزنى على روحى التى تُستعبد، وعلى جسدى الذى لا أملك حق إمتلاكه، أنا أبكى على ما ينتظرنى من ظلم، والظُلم أصعب من الموت".

فى أروقة بيت الطاعة ودعوى المحكمة، تتلاحق الأحداث وتظهر شخصية الأب الذى تصورت مرام أنه غاب أو مات أو إختفى.

وتظهر أيضا تفاصيل حكاية موت والدتها التى لم تكن تعرفها مرام..

تنطلق الأحداث لتظهر نقطة التحول فى الرواية والتى هى دائما ما تكون نقطة إنطلاقة أو نقطة قد تتبعثر من بعدها الخيوط الرئيسية..

تسلط الرواية الضوء على فكرة بيت الطاعة السيف المُسلط على رقاب السيدات العرب فى كل أنحاء العالم العربي..الحُكم الذى ينطلق من تحت عباءة القانون وليس الشرع، ولطالما حاولت النساء تغييره فى ظل غابة يحكمها الرجال وشرائعهم الغوغائية.

فمن بعد رحلة هروب البطلة من قبضة التطرف الدينى..تقع مرة أخرى فى قبضة التطرف الإنسانى أو القانونى..

تظهر الروائية هذا الجانب، بإصبع أشارت به إلى مشاعر البطلة المتخبطة التى وجدت الحب الحقيقي فى الوقت الخطأ.


رشاقة اللغة:

الجدير بالإشادة أن الروائية تمتلك لغة قوية وثرية ومفردات ساعدتها فى إبراز مكنون نفسها ومعتقداتها بكلمات رشيقة جدًا.. 

إستوقفتنى جمل منمقة لها وقع الموسيقى فى مواضع كثيرة.. جمل جعلتنى أصفقلها.. فعل ىسبيل المثال وليس الحصر.. هناك جمل كالآتى:

"لا تدرسين الفن لأن ريشتك ستظل أسيرة ثوبك وهذا ما سيعيق نجاحك".

"اتناول العشاء مع صديق في مطعما ستغفل بيروت وتخطى الشاطئ متسللا في البحر".

"العورة لا تكمن في جسد المرأة بل في نية الرجل وهل يفلح هذا الثوب في سترها عن نية الرجل؟".

"كم من مرة ضربت لنا الحياة موعدًا مخالفا لقانون حياتنا!".


تتمتع الروائية أيضا بحس أنثوى مرهف جعلها تعتلى صهوة جواد الوصف الدقيق للأشياء والمشاعر مما يجعل القارئ فى حالة نهم لإلتهام تفاصيل الرواية كلما قلب صفحة جديدة.


لغة شعرية:

من الواضح أن الروائية تميل إلى الشعر أو تمتلك موهبة كتابة الشعر..وقد أظهرت هذا بتجلى فى مقاطع كثيرة على لسان مرام وهى تفصح لحبيبها عن حبها له بالآتى:

( أهواك وما عاد القلب يحتمل..حبا..عشقا..وهياما..خلع عنى الرجل الشرقى وجعلنى أبوح بما أختزن..من وجد..ومن شغف وتوق مجنون).


وتكتب قصيدة أخرى تقول فيها:

(تقولين أحبك..وترسمين الحواجز والمسافات..تجولين العالم..وتحبسين بإتجاهى الخطوات..يا إمرأة صدعت قلبي بصخبك..وأشعلت فى صدرى التنهيدات..بعثرت روحى..وجعلتنى أشلاء فى شتات..لملمينى حبيبتى..بلسمينى بأناملك التى ل لامستنى لأضرمت في الشهوات).

فى النهاية لا يسعنى سوى أن أقول أن الرواية عمل أدبي دسم، قديفتقر إلى الأحداث السريعة المتلاحقة التى تجذب القارئ ولكنها تتمحور حول قضية هامة ومشاهر إنسانية تجعل القارئ فى حالة من الركض خلف الصفحات فى محاولة لأن يُخبئ مرام بين ضلوعه ويجتاز بها رحلتها من ضاحية على أعتاب بيروت إلى عاصمة الصخب والعشق ومن ثم إلى شط آمان.

إن مرام ليست مجرد فتاة أو إمرأة صارعت القهر وتمسكت بالحُلم لتتغلب على واقعها الأليم..ولكنها كل إمرأة عربية إستطاعت أن تتمسك بأحلامها وتحققها دون خوف من التصنيف أو التهميش.