"الجرائم الجنسية" في المجتمع المصري

أخبار مصر

بوابة الفجر


قالت دراسة صادرة عن المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة، للباحثة عزة هاشم، إن  المجتمع المصري شهد في السنوات القليلة الماضية تزايدًا ملحوظًا في عدد ما يعلن عنه من جرائم جنسية، مثل: زنا المحارم، والشذوذ الجنسي، والاغتصاب، والتحرش، وتبادل الزوجات وغيرها، وقد سلطت وسائل الإعلام الضوءَ على الكثير من هذه الجرائم التي وإن كان لها وجود قبل الثورة فإنها بدت بشكل صادم وأكثر صراحة وأكثر تداولا وانتشارًا بعد الثورة في ظل الانتشار الواسع لوسائل الإعلام بأشكالها التقليدية والحديثة.
 
 ورغم أن تلك النوعية من الجرائم الجنسية تكتسب في مضمونها بعدا اجتماعيا في الأصل، فإن ثمة حالة من التوظيف السياسي من حيث أماكن ارتكابها، وطبيعة الشخصيات الموجهة لها، بخلاف التوظيف الإعلامي لها في مواجهة بعض الأحداث السياسية.
 
مؤشرات متصاعدة
 
مع عدم وجود إحصاءات دقيقة عن الجرائم الجنسية في مصر، فإن بعض المنظمات الحقوقية المصرية والغربية لاحظت اتجاها متصاعدا لهذه الظاهرة ، فعلى سبيل المثال، تشير منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها عام 2014 إلى أن 500 سيدة على الأقل تعرضن لاعتداءات جنسية غوغائية في مصر بين فبراير 2011 ويناير 2014 ، بخلاف تعرض آلاف السيدات للتحرش الجنسي، خاصة خلال التظاهرات السياسية بعد الثورة.
 
بخلاف التحرش الجنسي الذي يكتسب مدلولا سياسيا، فإن ثمة جرائم الجنسية غير مألوفة في المجتمع المصري خلال العام 2014 ، مثل وقوع أكثر من شبكة لتبادل الزوجات والجنس الجماعي، وظهور متتالٍ وصادم لأربع حالات، مما عرف إعلاميًّا بقضية "العنتيل" التي تردد صداها في وسائل الإعلام لتصف مجموعةً من العلاقات الجنسية المحرمة التي أقامها أحد الأفراد مع مجموعة من النساء، وحرصه على تصويرهن لابتزازهن فيما بعد لتنتشر الفيديوهات المصورة على مواقع الإنترنت.
 
استغلال سياسي :
 
غالبًا ما يتم تحليل الجرائم الجنسية استنادًا إلى نظريات علم النفس التي تنظر إلى الجريمة الجنسية بوصفها سلوكًا مرضيًّا، وتركز على الدوافع والسمات الشخصية لمرتكبيها، أو نظريات علم الاجتماع التي تحرص على تحليل السياق الاجتماعي المنتج للجريمة.
 
 لكن الواقع الذي يحياه المجتمع المصري فرض تفسيرات وأبعادًا أخرى للجرائم الجنسية تذهب إلى ما هو أبعد من التحليلات الاجتماعية والنفسية للظاهرة، ليظهر "البعد السياسي" بوصفه بُعدًا لا يمكن إغفاله عند التطرق للانتشار الكبير والتداول واسع النطاق لأخبار الجرائم الجنسية في مصر في الآونة الأخيرة.
 
 فقد اتجهت الجريمة الجنسية في مصر وجهة مختلفة عندما بدا ظهورها متزامنًا مع اضطرابات وأحداث سياسية فاصلة، جعلت من انتشار هذه الجرائم والانشغال الزائد بها ظاهرة غير مألوفة في الوقت الذي أصبح فيه الشأن السياسي هو الشغل الشاغل للمواطن المصري. ولعل أبرز ما يمكن أن تثيره الجرائم الجنسية من توظيف سياسي ما يلي:
 
أولا: التركيز على متابعة الجرائم الجنسية كنوع من الإحباط السياسي : فغالبًا ما تصاحب الأزمات النفسية أو الصدمات والاضطرابات الانفعالية التي يمر بها الأفراد حالةٌ من الضيق والتوتر والقلق، خاصةً في حال عجزهم عن حل هذه الأزمات أو تفاديها، هنا يتبنى كل فرد استراتيجيته الخاصة في التعامل مع الأزمة، وهذه الطرق التي يتبعها الفرد للخروج من الأزمة والتعامل مع الضغوط يطلق عليها علماء النفس اسم "الحيل الدفاعية"، ويعد الهروب النفسي واحدًا من أهم هذه الحيل، والتي يبادر فيها الفرد إلى الهروب من المشكلة عند شعوره بالعجز عن مواجهتها، إما بشكل مؤقت لحين استجماع قواه أو بشكل دائم.
 
 وغالبًا ما يحاول الأفراد الانشغال بمصادر إشباع بديلة لتجنب مواجهة الأزمة، وقد يكون الانشغال بمتابعة وتداول تفاصيل الجرائم الجنسية واحدًا من هذه المصادر التي يلجأ إليها الأفراد هروبًا مما يتعرضون له من إحباطات سياسية واجتماعية متكررة، فقد شهدت السنوات القليلة الماضية العديد من الإحباطات السياسية التي فرضت على العامة شعورًا بالعجز عن إمكانية تغيير مجرى الأحداث من حولهم، فكان رد فعل الكثير منهم الهروب من الواقع السياسي بالانشغال الزائد بأحداث أخرى كمتابعة ما ينشر في الصحف من محتوى غير سياسي مثل أخبار الحوادث والأخبار الفنية والأبراج وغيرها.
 
 وبالتوازي مع ما سبق، ذهبت الصحف ووسائل الإعلام المختلفة إلى المبالغة في إظهار وتداول هذا المحتوى، وركزت جل اهتمامها على المحتوى المرتبط بالجرائم الجنسية والفضائح الأخلاقية، والتي أدت إلى خلق حالة من "الإلهاء" عن الواقع السياسي بعد انشغال العامة بمتابعة تفاصيلها وتداعياتها.
 
 وقد تم إطلاق مصطلح "الإلهاء السياسي" منذ فترة طويلة، إلا أنه شهد الظهور الأوضح عندما ورد في كتاب نعوم تشومسكي "أسلحة صامتة لحروب هادئة"، والذي تحدث فيه عن "استراتيجية الإلهاء"، التي صنفها على أنها واحدة من عشر استراتيجيات يستخدمها الحكام والنخبة للتحكم في الشعوب، وقد نوه إلى أن الإلهاء عبارة عن أداة أساسية للتحكم وفرض السيطرة على العامة، وهو يقوم على تحويل انتباه الرأي العام بعيدًا عن القضايا والمشكلات السياسية الهامة، والتغييرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية من خلال وابل من الأخبار التي تتضمن معلومات تافهة، وغالبًا ما تكون وسائل الإعلام هي المنفذ الأكثر فعالية لهذه الاستراتيجية.
 
ويعلق تشومسكي على استراتيجية الإلهاء في كتابه قائلا: "حافظ على تشتت اهتمامات العامة. أبعدهم عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهةً نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقيّة. اجعل الشعب مُنشغلا، دون أن يكون له أي وقت للتفكير، وحتى يعود للضيعة مع بقيّة الحيوانات".
 
وعلى ذلك، فإن ما اجتاح المجتمع في الآونة الأخيرة من انشغال زائد بمتابعة الجرائم الجنسية قد ينطوي على شعور بالإحباط الناتج عن الإخفاق في تحقيق تطلعات أفراده، والذي جاء متزامنًا مع أحداث وتغيرات سياسية فاقت قدرتهم على تغييرها، أو التحكم في مسارها، وجاء ذلك متزامنًا مع مبالغة وسائل الإعلام في تضخيم ونشر العديد من هذه الجرائم، وتقديمها للقارئ والمشاهد الهارب من متابعة الأحداث السياسية لإلهائه عن الواقع السياسي الراهن.
 
ثانيًا- الجرائم الجنسية كأداة للوصمة الاجتماعية:
 
الوصمة الاجتماعية social stigma هي نظرية ظهرت في ستينيات القرن الماضي، وتتحدث عن إلصاق المجتمع صفةً أو تهمةً سلبية بفرد أو جماعة معينة، مما يؤدي بشكل عام إلى شيوع حالة من الإقصاء والنبذ والاستهجان للفرد أو الجماعة "الموصومة"، وهو ما يترتب عليه تقييد حريتها وحرمانها من بعض حقوقها.
 
 وقد تحدث المتخصصون في مجال علم النفس الاجتماعي عن أنواع الوصمات التي امتدت لتشمل ما يسمى بـ"الوصمة الجنائية" التي تظل عالقة بالتاريخ الاجتماعي لأي فرد مجرم، وتؤدي إلى انفصال كامل بينه وبين المجتمع، وقد يعود إليها في كثير من الأحيان الاستمرار في ارتكاب الجرائم. 
وهناك أيضًا "الوصمة الجسمية" التي ترتبط بالتشوهات الجسدية الوراثية أو الناتجة عن حوادث حياتية، و"الوصمة الحسية" التي ترتبط بفقدان حاسة من الحواس، و"الوصمة العقلية" وهي مرتبطة بالأمراض النفسية والقصور العقلي، وهناك أيضًا الوصمة العرقية والوصمة اللغوية وغيرها.
 
 وقد شهدت مصر في السنوات القليلة الماضية أشكالا جديدة للوصم الاجتماعي الذي كان يتم بغرض تحقيق أهداف ومكاسب سياسية، وقد تم توظيف الجرائم الجنسية كأداة رئيسية في محاولات الوصم الاجتماعي في السنوات القليلة الماضية والتي شهدت:
 
-وصم الأشخاص: من خلال تداول العديد من حوادث التحرش الجنسي الفردي والجماعي التي تقع في المظاهرات والاحتجاجات، والتي تصور أن من يسيرون في هذه المسيرات عبارة عن مجموعة من المنحرفين والمنحلين أخلاقيًّا، وأن الفتيات اللواتي يُبادرن إلى الانضمام لها يوافقن على هذا الانتهاك ضمنيًّا، وهو ما نجحت الكثير من وسائل الإعلام في تصديره للعامة، وشهد تأييدًا كبيرًا منهم بعد عدد من حملات التشويه الإعلامي المنظمة.
 
-وصم وتدنيس الأماكن: وهنا يبدو ميدان التحرير بمثابة النموذج الأكثر وضوحًا والذي شهد مجموعة من حوادث الاغتصاب والتحرش الجنسي التي كانت تهدف إلى تجريد الميدان من "رمزيته" ليتحول إلى منطقة موبوءة لا يصح الاقتراب منها والتواجد فيها، وهو ما بدا بصورة أكثر وضوحًا في تظاهرات 30 يونيو التي شهدت عددًا من الاعتداءات الجنسية.
 
- وصم المواقف السياسية: وقد بدا بوضوح في تداعيات ما وقع من حوادث زنا في الفترة الماضية ومحاولات نسبة مرتكبيها لفصائل وتيارات سياسية بعينها، فظهرت العديد من الصور والتسجيلات التي تُظهر أحد مرتكبي جرائم الزنا، وهو يقف في تظاهرات ميدان التحرير وينتمي لأحد الأحزاب الدينية.
 
لقد سعى البعض إلى استغلال الجرائم الجنسية في تشوية فكرة الثورة ، وهو ما يصعب القول به، نظرًا إلى عدم وجود إحصائيات وأرقام دقيقة وموثّقة في هذا الصدد. ولكن -وبصرف النظر عن زيادة أو نقص عدد الجرائم الجنسية- فلا شك في أن المجتمع المصري قد شهد في الآونة الأخيرة تحولا كبيرًا في طبيعة هذه الجرائم التي ظهرت بصورة أكثر وضوحًا، وبدأت تتخذ بُعدًا سياسيًّا واضحًا جعلها أداة تُستخدم أحيانًا في تغييب الوعي، وأحيانًا أخرى في الحروب السياسية بهدف الوصم والتشويه.
 
وعلى الرغم من المبالغة الواضحة في إظهار الجرائم الجنسية وتداولها، وكذلك في عدم إثبات صحة معظمها؛ فإنها أثرت بالفعل في الرأي العام، وخلقت جدلا واسعًا امتد ليتجاوز حدود انتهاك القيم الدينية والمعايير الأخلاقية للمجتمع ليصل إلى ربطه بمعطيات الواقع السياسي الراهن.